دون إعلان أي طوارئ ودون سابق تنظيم، استيقظت الثقافة-القطاع لتُعِدّ النزل من قريبه للنازحين الجدد إلى ملعبها. أوّل الواصلين إلى قاعة الاستقبال الدواء-القطاع منهكًا "طلبوا مني أن أتراجع عمّا قلته من أني ملاذٌ للمنطقة... لم أوافق أوّلًا… أنزلوني إلى الدرك الأسفل... هناك صناديق كثيرة لا ترى النور. وضعوني داخلها إلى أن مات مصابًا بالسرطان. لم أبكِه. احترتُ بين شعوري بفائض القوة في تأجيل موته وبين جلوسي في هذه الكهوف الرثّة حيث لا أنتمي وأنا الشهير ابن لبنان المرفأ/الفيترين وناشر صيحات أدوية الـADHD على سبيل المثال لا الحصر."

تفضّل سنعطيك الطابق العلوي. هناك تعالج رهابك من البايسمنت. ننتظر ضيوفًا آخرين. استرح واستمتع في مشاهدة شاشات البورصة. ولا تخف عند رؤيتك كراتين جديدة... فقد وصلت المساعدات الدولية قبل خروجك من منطقة الدعم.

ثاني الواصلين البنزين/المادة "سعيد جدًّا. أخيرًا وصلتُ إلى حيث يجب أن أكون. لا أحبّ الطوابير ولا أحبّ من يمتلكني وكأنّي رخيصٌ. فليسقط طالبو خدماتي بلا مقابل. أنا ابن الكارتيلات الوفي. أنا النادر الوجود. رقيق المشاعر. المتبخّر عند عازتي. عدو من يستعملني لإشعال الثورات. خسئوا. أقتُلُهم ولا أشعِلُها."

بسيطة. آمل أن تُهدينا بونات بنزين بينما تقيم بيننا... هاها أمزح! هذا جناحك. هنا يوجد كل ما تحتاجه. خزنة ضخمة وآلة لعدّ المال وغرفة لاستقبال المقامرين. لن يكون هناك طابور بل فريق لتنسيق مواعيد الزيارات.

ثالث الواصلين المازوت/المادة "لم أكن يومًا أخضرَ. لم أنضب في خزانات مؤسسات الحيتان كما قيل. هاها. تواريتُ عن عيون الفقراء فقط. ما هذه المزحة السمجة التي باعوها لمستهلكيَّ! أخضر قال! لا أريد جناحًا معزولًا. سئمت العزلة. سئمت الصمت. أريد جناحًا مطلًا على الباحة. أريد فرقة دبكة تزفّني كل يوم." خير. وصلت. لك الطابق الأول مع ترّاس. ننتظر واصلين جددًا ونوافيك.

رابع الواصلين موفدون من الكهرباء/القطاع والقمح/المادة. أتوا لفحص النزل وللتأكد من عدم وجود أي رغبة لدى النزلاء بالسؤال والاستفسار. الكلّ متعب. تفضّلوا. خامس المقبلين اتصال من الاتصالات/القطاع الخاص يسألون عن إمكانية أن يأتوا بلا أوجيرو وأن يوقعوا باسمها من اليوم فصاعدًا. تمام... متفقون.

اكتمل النصاب. رُفع الدعم عن كل ما كان يرعاه توافق لبنان الكبير. رُفع بالتوافق طبعًا. وأتت القطاعات والسلع واحدة تلو الأخرى إلى نزل الثقافة... قطاع لم يكن له راعٍ محلّي بعد الطائف. ولا قبله بشكلٍ عام. قطاعٌ بنى بعض التقارب مع القطاع العام في مناسباتٍ عدّة حتى شبّه للقطاع العام وزارة ثقافة وموظّفين. قطاعٌ بقي يعتمد – خصوصًا بعد الطائف – على الرعاية الدولية وعلى بعض المحاولات والمبادرات الفردية والجماعية المحلية.

ترحّب الثقافة بالوافدين إلى ملعبها وتوزّع عليهم دليلًا أعدّته عن شكل الاستمرار من دون رعاية الدولة. الدليل بثلاث لغات وفيه لوغوهات وأسماء المساهمين والمموّلين. ستعتادون الأمر... خصوصًا القمح... يا أهلاً وسهلاً!

في مقدّمة الدليل، توضح الثقافة تموضعها بعد بضع نقاشات قادتها المؤسسات الثقافية وتوجز بأنها ليست fan لدولة الرعاية من ناحية أنها دولة رقابة وقمع. فهي لا تحب هذا النموذج. وهي تفضّل أن تتمحور علاقتها مع الدولة – لو قامت يومًا – على أساس حرية التعبير والاحتفاء بالتنوّع.

That was said... ننتقل إلى المفيد. يولي الدليل الجزء الأكبر منه لتصوّر شكل القطاعات بلا دعم إسقاطًا لما حصل في قطاع الثقافة بلا دعم.

ستبحث عن باترون جديد بالرغم من الرغبة العارمة حولك بأن يتوقّف كل شيء. لن ترغب بالتوقّف. تكرّر على مسامع نفسك "أنت ابن البلد الذي لا يموت". ستسعى للاستمرار وستبحث عن قصّة نجاحٍ تسوّقها. ستحتاج باترون جديدًا يرعاك. وقد يأتي إليك قبل أن تبحث عنه... وقد ينتابك الشكّ بأنه افتعل كل الأزمة كي يستدرجك إليه. أو تنتابك الرغبة بأن تصبح من حَمَلة جنسيته.

لن تتعرّف إلى عقلية المستهلك الجديد.

وبعد فترة، يبدأ الشعور العام بأنه هذا هو القعر. يأتيك الباترون الجديد فتشعر بأنك عدت للعوم. تفرح بالطبع. ولكن بعد فترة، تبدأ بملاحظة العائمين معك. مستهلكون جدد. أين ذهب المستهلك القديم؟ قد يكون هاجر أو مات أو لم يعد قادرًا على العوم. تفكّر بالبحث عنه. ولكن البحث عنه لا يتوافق وشروطَ الراعي الجديد. غرق أم عوم؟ تختار العوم بالطبع. وكلّما حاولت فهم عقليّة مستهلِكك الجديد أتت موجة عاتية وغيّرت المستهلكين مرة أخرى. وهكذا، إلى أن تقرر الاستغناء عن فكرة فهم المستهلك وتقدير حاجاته وتذهب لترجمة خطط الراعي الجديد. هنا العمل هنا الإنتاج. لا مكان للرغبة. لا مكان للتراجع. لا مكان للاسترخاء.

لن تركّز على العقليّة... عليك بخلق السلوك. 

بعد فترة، لن تعود مهتمًا بعقلية العائمين. ستذهب إلى خلق السلوك لدى المستهلك. ستأتي باستراتيجيات وقصص نجحت في أماكن أخرى من العالم. ستبدأ بتطبيق إرشادات الراعي الجديد. ستلحظ أنك قد بدأت تفهم المستهلك الجديد ولكن سرعان ما تتضح الصورة. لم تفهمْه ولكن سلوكه هو الذي تغيّر. ستعلن قصة ناجحة جديدة، ولكن في أعماق أفكارك تعلم أنّه هو أيضًا لا يريد الغرق. يفضّل العوم. ومن رفض السلعة/الفكرة التي قدّمتَها غرِق أصلًا بطريقة أو بأخرى.

هناك موسمٌ مناسبٌ لطرح الأسئلة الكبرى

بعد فترة أطول، تأتي مناسبة تستطيع فيها أن تطرح الأسئلة الكبرى التي تقمعها في داخلك. ستقول بأنك لم تعد تستطيع نكرانها. ستقول بأنها تأكل روحك وتقضم عمرك... ستصرخ مطالبًا بالمعنى: ماذا جنينا؟ لماذا ننتج؟ ماذا ننتج؟ هل من عدلٍ في هذا العالم؟ هل من مكانٍ ومساحةٍ لنا؟

عندها... ماذا سيحصل؟ سيكون النزل خارج الدعم قد امتلأ وسيكون نزلاؤه قد أصبحوا دائمين وشركاء وسيكون الراعي الجديد قد قام بأعمال توسيع هنا وهناك وأرسى شكلًا لإدارة عقول المستهلكين. ستطرح الأسئلة الكبرى: أين الثقافة من هذا كلّه؟ أين المفكّرون؟ قد تلحظ، أو لا تلحظ أنهم… أول سكان النزل؟ سترعبك فكرة أنهم هم من جهّزوه لك. وسيكون هناك شعورٌ عام بأنه عندما تأتي الأسئلة الكبرى سيكون هذا إنذاراً لاقتراب الكارثة الجديدة... أم أنّها الفرصة هذه المرة؟

الصورة: "الخيميائي". بيتر بروغل الاصغر. 1558

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button