أحاول إعادة المشهد ولكنّه مهما ضبطت ذاكرتي واستعدتُ أحداثه لا يأتيني بتسلسلٍ واضح. أركّز في جرافة تشقّ السياج. فأصطدم بنعش شرين يكاد يسقط على الأرض. أرى شرايين الأيادي التي تحرس نعشها تخرج من شباكٍ في جنين وتطلق النار. تذهب الرصاصة مباشرةً إلى رأس جندي متوغّل في جحر الديك. وما أن يسقط أرضًا أرى خيمةً قد هدمت في النقب وأخرى ارتفعت في رفح. يخرج من الخيمة طفل يبتسم وقدماه في الوحل. ينشقّ الوحل فيخرج منه شابٌ بلباسٍ رياضيّ. يتدحرج فأرى الأبواب الحديدية في القدس قد أزيلت. تختفي البوابات فيظهر مشهد حجارة حائط البراق. ترشق الحجارة دبابة فتنفجر. ترشق أخرى فتحترق. وفي لهيبها تتفحّم زيتونة في جنوب لبنان. يتصاعد الدخان منها فيختنق شاب في نور شمس. يأتيه المسعف سريعًا يمسك يده فيكتمل بيديهما رغيف خبزٍ ساخنٍ في النصيرات. تحمله امرأة وتخفيه في عباءتها. تحميه من عيون الوحوش. تسقط نسرة خبزٍ منها على الأرض وما أن تلامس التراب حتى يُمحى حي الرمال. ينقطع نفسي من غبار انفجار الحي. أتذكّر غبار انفجار مرفأ بيروت. أستجمع قوّتي وأفتح عينيّ جيدًا. أرى جنازة قانا في المعمداني. وأرى إسعاف المنصوري أنقاضًا أمام الشفاء. وأرى الطريق من يافا إلى بيروت تصل إلى بيت لاهيا فطوباس. 

أغفو على أن يكون لي في الصباح جولة جديدة في ترتيب الأحداث. لكن في الليل، يضيء آخر النفق. أرفع رأسي لأراه جيدًا. أراني كثرًا.. أفضل مني. وأجمل. وأثبت. وأوضح. وأنقى. أنزل من على سريري. تلامس أقدامي سائلًا سميكًا. يصل إلى كاحلي. ثم ركبتيّ. ثم صدري. ولكن عيوني شاخصة بآخر النفق. أراني كثرًا. أتقدّم نحوهم. تعيقني سلسلة حديدية ثقيلة. أنصت فأسمع صوتها. كلما اشتدّت على كاحليّ ازداد الألم في رقبتي. أستجمع قوتي وأفتح عينيّ جيدًا. أرى جنازة إبراهيم وصورته على حمّالة مفاتيح. أفهم أنه عليّ فتح السلاسل بها. أحاول الوصول إليها. ألتقطها. أصحو. 

أعود إلى ترتيب الأحداث. لم أصل آخر النفق بعد. لم ألتقط أنفاسي بعد. لكني أعددت نفسي لعدم البكاء. أقرأ عن البكاء لأفهم كيف يمكنني مضغ هذا الألم دونه. وأفهم. البكاء الفردي يزيد الألم وأنا لشدّته أريده أن يزول فكان لا بد من ابتلاعه دون بكاء. لا بدّ أن يكون البكاء جماعيًا. أنضم لجوقة تريد اندثار الألم. أراهم في آخر النفق. يحملون أرواحهم على أكتافهم ويطيرون. يخبرني عابر بأن الألم في الأرض يصنع طائرة. أتبرّع بألمي. لا أحلم بأن أبلغ آخر النفق. ولكني أرسلت ألمي إليه. فلتكن روحي جناحًا إضافيًا. فلنصنع طائرة تعبر آخر النفق. يمكنها أن تعلو كيفما شاءت فآلاف الأرواح تمنعها من السقوط. 

أشهد أني حلمت أنني كثر. أفضل مني. وأجمل. وأثبت. وأوضح. وأنقى. 

وأشهد أني سعيت لترتيب الأحداث وفهمت بأنها ردمٌ يجب أن يكون. 

وأشهد أني لم أر في الحلم أي وهم. وأني لم أشأ أن أتدخّل في مجرياته وأني كنت على يقين الحلم. أثق به. 

وأشهد أن حلمي لم يكن هلوسة. ولم يكن نحيبًا. ولم يكن إخلاصًا. 

وأشهد أني أعددت نفسي لعدم البكاء إلا جماعةً بالتبرّع بالألم. 

وأشهد أنني لم أحِد بنظري عن آخر النفق.

وأشهد أني لن أحيد عن المفتاح حتى أطاله. 

الصورة: مخيم نور شمس - طولكرم

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button