ما تراه من سياراتٍ فاخرة في لبنان لنْ تراه في أيّ بلدٍ من دول العالم الأول، بالتّحديد ما تراه في أكثر أحياء بيروت عشوائية يدفعكَ إلى التأكد أنّ سيارة فاخرة في هذه البلاد ليستْ دليل ثراء. إنّه دليل مديونية كأشياء كثيرة أخرى كالبيت وحفل الزفاف وماكياج الفاشينيستا وربّما ثيابها. اللبنانيّ يعيش بمنطق "أقترض لأنّي أستطيع" ولأنّه يستطيع لا يُنتج.

لم نصلْ إلى هنا بين ليلةٍ وضحاها، لقد تغيّرتْ عاداتنا الغذائية أفكارنا وحتّى علاقاتنا الإنسانية وعلى مدى ثلاثين عاماً أيّ مدة حكم الترويكا وإعلان لبنان كبلدٍ سياحيّ وخدماتيّ بدأنا نفقدُ ما كنّا جيّدين به. من فكرة التكافل الإجتماعيّ وأبسط الممارسات كالشّراء من دكانٍ صغيرٍ لأنّ صاحبه يُعيل عائلة إلى إنشاء مراكز تجاريّة ضخمة تقضي على المؤسسات الصغرى ثمّ إنشاء جمعيات لمساعدة الضحايا والتسوّل باسمهم.

يمكن تحديد مكان سكني السّابق في بيروت بين مول  ABC أشرفية ومول ABC فردان، في الوسط على مسافة ربع ساعة من الطرفين مع احتساب زحمة السّير. وإنْ استطردتُ وقلتُ أنّي أحتاج لعشر دقائق نزولاً إلى أسواق بيروت أكون قدْ حددتُ المكان في البسطة بالقرب من خندق الغميق المنطقة الأكثر شهرة في ظلّ هذه الأحداث. المنطقة الفاصلة بين بيروت لأهلها وبيروت سوليدير العاصمة الشّركة.

يفوق سعر المتر في البسطة السّبعة آلاف دولار، مع العلم أنّ أغلب سكانها يسكنون بموجب عقد أجارٍ قديم، هم طبقة وسطى مثل الكثير من سكان الأشرفية والحمرا وقبلهم منْ ملكَ عقاراً في وسط بيروت هؤلاء لنْ يتمكنوا من الشّراء في منطقتهم  كما لم يُسمح لآخرين البقاء في سوليدير وسيتمّ إعادة تعريف المنطقة حتّى يتساءل أهلها إنْ لم نكنْ فقراء فلماذا أصبحنا كذلك؟

هناكَ شجرةٌ ضخمة في الطريق من البسطة إلى بشارة الخوري، يتجاوزُ عمرها عمر كلّ أشجار سوليدير المعتنى بها، عشوائية ومهملة كحال منْ يسكن حولها. لتعرفَ منطقة بعينها يمكن الإكتفاء بملاحظة حال الشّجر فيها. فحالُ الشّجر كحال البشر ويقع عليها ما يقعُ على الإنسان من إجحاف.

عليكَ التسليم أنّه قدْ تولد وتموت في بيروت ويأتي سياسيّ ما ليقول بعنجهيّة "بيروت للبيارتة" ويتجرّأ أيضاً من يُسقط عنكَ حقّ التظاهر فيها فقط لأنّك ابن الجنوب أو ابن الضاحية بينما هو نفسه يعتبر تظاهر ابن طرابلس في بيروت حماية لها ولإرثها و"خط الدفاع الأول". هذا الخطاب الطائفيّ المقيت دمّرَ بيروت وجعل مشهد تكسير سوليدير لا يثيرُ غيرة أحد إذْ لم تترك هذه السياسة ابناً لهذه المدينة.

الإستهلاكُ هنا بديل الإنتماء، إنّه فكرة السياسيّ عن هذا البلد فالإقتصاد الحرّ لا يتوقّف عند فتح باب الإستيراد بل يمتدّ إلى نسف الداخل بما يحمل من أصالة. في فيديو لأحد شباب الخندق ينتقد فيه أحد المتظاهرين ويهزأ منه متّهماً إيّاه أنّه يريد افتعال حربٍ أهليّة بينما يحمل الغيتار عازفاً. أسلوب الشاب الهزليّ لا يُقلّل من جدّة كلامه فهو يلفتُ انتباهنا أن لا شيء يجمع بين متظاهر الرينغ وشاب الخندق. متظاهر اليوغا لا يُشبه بشيء متظاهر الخندق بل يُخيفه.

نعود إلى الإستهلاك الذي بنى مجتمعاتٍ لا تتقاطع في نفس المدينة كلّ منها يحملُ تصوّراً مسبقاً عن الآخر وأحياناً نظرةَ دونيّة، إنّ مدى اتّساع الهوّة الإقتصادية والثقافية بين متظاهر الرينغ ومتظاهر الخندق يوضّح أنّنا نفتقد لوسائط اقتصاديّة عادلة.

مجتمع ما بعد الحرب صُدم بأفكار اقتصاديّة دفعتْ منْ يزرع أرضاً إلى إعمار بناية وبيعها بهدف تحقيق ربحٍ أكبر. بالتالي يُمكن فهم أنانية جيلنا واستشراس البعض للحصول على الثروة، كانعدام رحمة بعض موظفي الدولة واستغلالهم المركز إلى التهريب وتبييض الأموال والغشّ في تنفيذ المناقصات. قلّةٌ تستطيع الإحتفاظ بأخلاقيات عالية بينما المنطق السائد: الأقوى يحتكر ويُسيطر ويستمرّ. بينما ليس بالضرورة أنْ يكون الأفضل، القويّ الذي نعرفه لا يُقارب حتّى معايير الصواب من ناحية العدالة أو الرؤية للمستقبل. وعمليةُ إرساء بقائه تُفسّر أنْ يصيرَ السياسيّ ظهراً للمتعهّد، لاعب في الخفاء وآخر في العلن، وأنْ يتمايز الأفراد بين باحثٍ عنْ ظهر مهما كان الثمن وبين ملتزمٍ للهامش.

في لحظة صدقٍ يخافُ الكثير منّا فقدان رفاهية الكسل. تمرّ سنوات خدمة دكتور الجامعة اللبنانية دون نشر مقالة أو دراسة مع تعويض لا يتناسب مع مدى فعاليته وأدائه. تقاعد العسكري والدركي في عزّ شبابه. قيمة تقاعد أصحاب الرّتب العالية يصل إلى مئات آلاف الدولارات. وأمثلة كثيرة أخرى. لأنّنا نخاف لنْ تجدَ من يُجاهر بنقصه. احتكارُ وظائف الدولة كاحتكار النفط والغاز وغيرها هي احتكارات موزّعة طائفياً لضمان استمراريّتها. كلّ يوزّعُ الكسلَ على جماعته.

منْ يرفض تلك الرفاهيّة!

بطريقةٍ ما تُشبه الأفكار والعلاقات الإنسانية النمط الإقتصاديّ السائد. تحرّرُ اللبنانيّ الزائف، نجاح المرأة اللبنانية في كلّ المجالات إلا الشأن العام، الحبّ السريع والطلاق الأسرع، الإستعراضيّ الذي يُسَلّط عليه الضّوء بينما يتركُ العاقل في الخلف دائماً.

الإستهلاك كلمة صغيرة للتعبير عن حجم العفن في روح هذا البلد. الإستهلاك بديلُ الإنتماء والإنتاج والأصالة. العاصمة التي يتغنّى بها الزعيم يخافُ عليها منك، ويقتصرُ ما تقدمه لكَ بعد استيلائها على عمرك هو إمكانية أنْ تقترض. أنْ تقترضَ أكثر. أنْ تقترضَ لتعيش. أنْ تقترضَ لأنّك تستطيع.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button