يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك أن وراء كلّ تطهير عرقي شاعر، وأن أفلاطون كان محقاً ربما بطرده الشعراء من مدينته الفاضلة. جيجك، الفيلسوف الذي عاصرَ إحدى أبشع مجازر القرن العشرين في يوغوسلافيا وأخواتها، يستفزّنا كعادته في هكذا عبارة، وهي تعني ببساطة أنّه لا يمكن إقناع شعب بإبادة شعب آخر من دون لجوء من يقود المجزرة إلى الخيال والجماليات وإنتاج الخرافات التي تجعل الإبادة والمجزرة أسهل على مَعِدة القاتل. هذا ما قامت به الكولونيالية الصهيونية قبل عام 1948، وتستمر به حتى يومنا هذا من خلال إنتاج سرديات قومية-دينية ساهمت في بناء مخيال صهيوني مؤسِسة لفكرة إبادة شعب بِرُمَّته. من سردية داوود ضد جالوت، إلى سردية "الشعب بلا بلد في بلد بلا شعب"، أو سردية فلسطين كصحراء (يكفي قراء المذكرات المفصلة لليهود الهاربين من أوروبا الشرقية أوائل القرن العشرين لمعرفة كيف تعلموا الزراعة من الفلسطينيين وذلك بسبب منعهم من الزراعة في أوروبا الشرقية).

هذه السرديات ليست مجرد بروباغاندا وأكاذيب هدفها رفع المعنويات أو تقويض قدرات العدو، بل هي بناء مُمنهَج لذاتيّة المستعمِر وتدمير مستمرّ لذاتية المستعمَر، صورته، وجوده، واستمراريته في التاريخ. يوثّق إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق" ماهيّة "النظرة" الأيديولوجية التي تلقي بها القوّات المستعمِرة على المستعمَر لإعادة تعريفه، ولإسقاط صورة عليه لا يمكنه الهرب منها مع أنه لم يخلقها أصلاً. هكذا وبواسطة إنتاج سرديات فنية وثقافية متعددة، ينتَزِع المستعمِر إنسانية وذاتية المستعمَر، فيصبح الاستعمار أسهل وأكثر فعالية. 

"خارج الإطار: ثورة حتى النصر" (2016، 100 دقيقة، إخراج مهند اليعقوبي) هو فيلم عن "شعب يبحث عن صورته" كما يشير ملخّص الفيلم. يذكر اليعقوبي المخرج الفرنسي جان لوك غودار وفيلمه "هنا وهناك" كمصدر إلهام له في هذا الفيلم، فغودار في "هنا وهناك" كان يدعونا إلى رؤية الثورة الفلسطينية بإطار جديد. الفيلم هو إذا دعوة إلي إعادة تملّك أعيننا أوّلاً، أعين قادرة على الرؤية  بطريقة جديدة من أجل بناء ذاكرة صورية وخيال تاريخي جديدين، إذ حسب تعبير والتر بنيامين: "التاريخ عندما يَتحلّل، يُصبح صوراً، لا قصصا."

أمضى مهند اليعقوبي قرابة السبع سنوات في صناعة فيلمه. سافر حول العالم بحثاً عن بكرات أفلام فلسطينية منسيّة في مؤسسات احتفظت بها في أرشيفها، فنبش بعضها في أرشيف الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الإيطالي، وفي القارة الأسترالية. لماذا؟ ليصنع فيلماً من لقطات وثّقت تاريخ الثورة الفلسطينية. 

تشير الإحصاءات، ما بين إعلان قيام دولة الاحتلال عام 1948 واجتياح لبنان عام 1982،  إلى أنّ النظام الكولونيالي في فلسطين قد نهب قرابة الأربعين ألف فيلم، أكثر من مليوني ونصف صورة فوتوغرافية، قرابة المئة ألف تسجيل صوتي، وأكثر من أربعين ألف خريطة من الأرشيف الفلسطيني. أهم أرشيف للثورة الفلسطينية، أرشيف المركز الفلسطيني للأبحاث الذي كان مركزه بيروت، قام الجيش الإسرائيلي بنهبه وتدميره في مناسبات عدة. هذه الأرقام وحدها كفيلة أن تشير إلى أهمية سردية الشعب المستعمَر وخطرها الوجودي على سردية المستعمِر وميثولوجيا وجوده. ولذلك، فإن إعادة تكوين الأرشيف هي أيضا عمل يساهم في إعادة تكوين الذاكرة على طريق التحرير.

في بداية الفيلم، وقبل الدخول في صلب المشاهد الأرشيفية، يظهر المخرج في "مختبره"، يجهّز ماكينات عرض الأفلام، يكتب ملاحظاته على الشاشة، يغيّر بكرة فيلم، يصوّر لقطات close up لليدين والبكرات والشاشات والماكينات. يقول أن "صناعة" الفيلم هي جزء من الفيلم نفسه. فالمخرج يعمد إلى تحقيق هدفين: الأول موضوعي، وهو إعادة تركيب بعض من أجزاء الإناء المكسور، أي المساهمة في إعادة بناء الأرشيف المنهوب. أما الثاني فذاتي، وهو إنتاج الفيلم، أي عندما يتدخّل المخرج في الأرشيف، ويحدد ما يريد أن تراه عين المشاهد. 

بعد لقطات المخرج في مختبره وعملية تجهيز الماكينات، ننتقل إلى صور لفلسطين قبل النكبة. مشاهد تشبه يوتوبيا من عالم آخر، خيالية من موقعنا. يتركنا المخرج أمام الصور القديمة، لا يتدخل سوى في التقطيع والتسلسل، لا يضيف سوى بعض التفاصيل في الصوت والـ slow motion، لا يقدّم الكثير من الإرشادات كالتواريخ أو الأسماء أو الأماكن أو السياقات، نحن بمفردنا أمام هذا الأرشيف. كلّ ما علينا فعله هو أن نشاهد هذه الصور، وربما أن نعيد برمجة خيالنا الجمعي.


العين والثورة

خلال الإعداد لإنتاج فيلم "المجتمع الاستعراضي" أعدّ غي دوبور لمنتجه لائحة طويلة من الأفلام والأرشيف التي يريد استخدامها في فيلمه. وهكذا يقوم المخرج عادة بإعداد أفلام المونتاج الأرشيفي، فالأرشيف موجود وعلى المخرج أن يختار ما يريد. لكن في حالة مشروع فيلم "خارج الإطار"، فالأرشيف ليس موجوداً، ولذلك توجّب على اليعقوبي أن يبدأ من مكان آخر، أن يجد الأرشيف أولاً.

في مقدمة كتابه الشهير "ما هي السينما"، يكتب أندريه بازين -أحد أهمّ المنظّرين السينمائيين الفرنسيين الذي عُرف بتعصّبه للسينما الواقعية réalisme- عن الفن الفرعوني وأهميته في السيكولوجيا والأيديولوجية المصرية القديمة. زهو يعتبر أن هدف الفن الفرعوني مقاومة الموت وتجميد الزمن، "فالموت هو عندما ينتصر الزمن" يقول بازين. ومن هنا ينطلق بازين للتأكيد على أهمية الفن والصورة الفوتوغرافية والسينما بشكل خاص، كأدوات سيكولوجية لمقاومة الوقت، لمقاومة الموت. وقد يعبّر ذلك عن البعد السيكولوجي للأرشيف الفلسطيني، أداة لمقاومة الموت، أداة لمقاومة الفراغ المهول الذي خلقه المستعمِر في الثقافة الفلسطينية ولا يزال مستمراً في تكبير فجوته منذ أكثر من 70 عاماً.

لا تزال الثورة الفلسطينية أداة لمقاومة الموت، كأي ثورة أخرى. ولكن كل ما نشاهده في الفيلم هو أطياف - أطياف ثورية وتنظيمية وثقافية وقتالية اغتالها الوقت. يقول بنيامين أن التاريخ ليس فقط سرداً لأحداث حصلت فعلاً في الماضي، بل هو أيضاً الأحداث التي حلمنا بحصولها في مستقبل ما، لكنّها لم تحدث. هو التطلعات والآمال والأحلام الثورية والتغييرية التي اغتيلت أو أجهضت قبل أن تولد ومحى الوقت أثرها. في المقابل، يقول الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا أن العين هي العضو الوحيد في جسم الإنسان الذي لا يشيخ. فيلم مهند اليعقوبي هو تاريخ العين الفلسطينية وعلاقتها المتينة بالذاكرة. وبهذه العين، قد نرى مستقبلين اثنين، حسب ديريدا، future و avenir: الأول هو المستقبل الذي ترسمه وتبرمجه قوى السلطة المسيطرة على الواقع، أما الثاني، فهو أقل تنبؤاً وأقلّ برمجة وأكثر مفاجأة، هذا هو المستقبل الحقيقي... المستقبل الذي يحمل معه الدهشة ولو بعد حين.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button