بعد أن قضى صباحه البارد جالسًا في مقهى مطلّ على شارع هادئ في مدينة أمستردام، محاولًا أن يكتب شيئًا عن ديموقرطية الثقافة في زمن المقاومة، رفع عينيه عن الشاشة لينظر من حوله: هل من تغيير حصل في هذه الثواني القليلة؟ ثم عاد لينظر إلى هاتفه. الأخبار تتدفق كالشلّال: صواريخ، أنقاض، أناس يركضون. رسالة صوتية من صديق في بيروت: "هربنا الليلة الماضية، الوضع لا يُحتمل." رسالة أخرى من دمشق: "ما زلنا بخير، نوعًا ما." منشور جديد من صديق في غزة: "إذا قرأتم هذا، فربما لم أعد هنا". "سقط النظام"، "اتفاقية وقف إطلاق النار"، "فوضى في دمشق"، "إسرائيل تجتاح جنوب سوريا"، "أصبح لدينا رؤساء".

يتوقّف للحظة، يضع هاتفه على الطاولة. يأخذ نفسًا عميقًا، يتأمل المقهى حوله: الضباب خفيف اليوم، الشمس تحاول أن تتسلل عبر الغيوم، لكنها تبدو كضوء باهت في نهاية نفق طويل لا مخرج منه. الزبائن حوله يثرثرون عن خطط عطلة الصيف، عن العمل، عن العشاء الذي سيعدّونه الليلة.

"هذا وقت مستقطع،" يقول لنفسه. لكن أيّ نوع من الوقت المستقطع هذا؟ هل هو الوقت الذي تمنحه الحرب لنفسها قبل أن تستأنف شراستها كما في اتفاقيات وقف إطلاق النار التي لا تعني سوى استراحة للقاتل كي يعيد تلقيم سلاحه؟ أم أنه الوقت المستقطع من الحياة نفسها، تلك الثواني التي يتوقف فيها الشخص ليحاول استيعاب ما يحدث، قبل أن يعود، بطريقة ما، إلى إيقاع يومه الطبيعي؟ هل الجالسون هنا يعلمون أن هذا الصباح المشمس الضبابي هو وقت مستقطع من مجزرة مستمرة؟ من قلق متصاعد؟ من فرحة مسروقة؟ وإن علموا، فهل يهمّهم ذلك؟

هنا، في هذا المكان الذي كان من المفترض أن يكون مشرقًا، حيث جئت لأكمل دراستي بحثًا عن مستقبل كنت أظنه مشرقًا هو الآخر، لا أحد يعي أنني أعيش في مشهدين متوازيين. لا أحد يدرك أنني محاصر بين هنا وهناك. وإن أدركوا، فجلّ ما يملكونه هو عبارة باردة: "أنا آسف لذلك، أسمعك حقًا." صوت متعاطف، لكنه بلا امتداد، بلا أثر، مجرد صوت آخر في ضجيج الشارع الصامت.

حرف العطف الذي يبدو وكأنه يصل بين نقطتين، لكنه في الحقيقة حاجز، جدار غير مرئي بين عالمين لا يلتقيان إلا كنقيضين. هنا، على الطاولة أمامي، نوافذ مفتوحة لأوراق عن مفاهيم "سوسيولوجيا ما بعد الحداثة"، "جندرة الديمقراطية"، "التقاطعية في تفكيك رواسب الاستعمار"، وهناك، حيث الزمن لم يعد متاحًا للترف النظري، تُكتب الحقوق بدماء من يفرّون، من يصرخون، من يحاولون النجاة دون أن يكون لهم متّسع من "الوقت المستقطع".

هنا، أحاول أن أمارس حقّي في التأمل، في إنتاج المعنى، في البحث عن احتمالات جديدة، وهناك، الاحتمالات محاصرة في ممرّ ضيق تحاصره الأنقاض، محاصرة باللحظة التي تسبق سقوط الصاروخ التالي.

وأنا أجلس هنا، أدرك أنني عالق في هذا الركام—ركام التاريخ الذي لم يُرفع بعد، الذي ينتظر من يحمله ويمضي به نحو احتمالات لا نهاية لها، لكنه يتراكم أكثر فأكثر، يمنعنا حتى من الحراك.

الكتلة التاريخية التي حلم بها غرامشي، تحالف المضطهدين الذين يجتمعون في مواجهة الهيمنة، تتفتّت اليوم أمام عيني، تُذبح في وضح النهار، بينما المستعمر الجديد يجلس أمامي، يُنظّر عن "التعددية الثقافية"، عن "ما بعد الاستعمار"، عن "تعقيد الصراعات"، بينما على بعد شاشة واحدة، يتضح البديهي المطلق في الصراع: هناك من يُباد، وهناك من يبرّر. في الهيمنة التي لا تفرض بالقوة فقط، بل عبر إقناع المضطهدين بقبول واقعهم، هنا، أرى الهيمنة في أكثر صورها نعومة وخداعًا: المستعمِر الذي لم يعد بحاجة لاحتلال الأرض، لأنه احتلّ مساحة السرد، أعاد كتابة التاريخ بلغة منمقة، منح ضحاياه الحد الأدنى من التعاطف كي لا يثوروا، لكنه لم يغيّر شيئًا في جوهر سلطته.

لم يرَ المخرج السوفيتي سيرغي أيزنشتاين المونتاج مجرد وسيلة للانتقال بين المشاهد، بل صراعًا، تصادمًا بين اللقطات لإنتاج معنى جديد. هنا، أعيش هذا المونتاج، لكن ليس على شاشة سينما، بل في ذهني. صورة فنجان القهوة أمامي، يجاورها مشهد الدمار. لقطة لمبانٍ نظيفة، تتبعها لقطة لأجساد تحت الأنقاض. شارع هادئ هنا، شارع مشتعل هناك. لا توجد موسيقى تصويرية، بل أصوات مذيع الأخبار، الرسائل الصوتية لأصدقاء يسألون: "إلى أين نذهب؟" والمفارقة أن الإجابة دائماً في مكان آخر لا يلبث أن يصبح هناك.

هذا الوقت الذي أعيشه هنا، هل هو وقت مستقطع، كما في السينما، تلك اللحظات التي تتوقف فيها الحبكة لالتقاط الأنفاس؟ أم أنه مجرد وهم، فاصل زمني مخادع يجعلني أظن أن لدي ترف التفكير، بينما هناك، في فلسطين وسوريا ولبنان، لا وقت للاستراحة، لا مساحة للتفكير. في السينما، الوقت المستقطع يتيح للمشاهد فهم ما يجري، أما هنا، فهو لحظة اغتراب: أرى المشهد من مسافة، لكني لا أنفصل عنه، أعيشه بكامل تفاصيله، رغم أن كل من هم حولي لا يدركونه، أو يدركونه فلا يعنيهم إلا كخبرٍ عابر.

تصادم بين لقطتين متناقضتين ينتج عنهما معنى جديد. الصورة الأولى: فنجان قهوة في مقهى هادئ. الصورة الثانية: شارع مدمر بالكامل. ماذا ينتج عن هذا التصادم؟ هل هو وعي جديد؟ أم مجرد انفصال تدريجي عن الواقع، حيث يصبح التناقض ذاته مألوفًا؟

يرفع هاتفه مجددًا، يتصفح الأخبار. يَجري التخطيط الآن لإعادة الإعمار، إزالة الركام، والبناء. لكن الزمن وقت مستقطع في انتظار الحرب، تمامًا كما كان في كل الحروب السابقة. الركام يُزال، ثم يعود. البيوت تُبنى، ثم تُهدم. السيزيفيون هناك يحملون حجارتهم إلى أعلى الجبل، رغم معرفتهم بأنها ستسقط مجددًا. هل هم سعداء؟ هل نحن سعداء؟

أتذكّر. كلّنا نتذكّر…

لكن، التذكّر وحده لا يكفي. التصادم هو ما ينتج المعنى

"هنا لا أمل

ولا شروق

علم مع صبر

العذاب أكيد

إنها مستعادة

ماذا؟

الأبدية"

- آرثر رامبو 

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button