عندما أقدمَ مستهلّو العصيانِ على إحراقِ أنفسِهم مطلقينَ شرارةَ الرّبيعِ العربيِّ لم يعلنوا فقط أنّهم معماريّو أجسادِهم، وصانعو عمليّاتِ البناءِ والهدمِ، بل أعلنوا وبإصرارٍ عنيدٍ أنّهم معماريّو السّاحاتِ والأبنيةِ المجاورةِ الّتي شهدَت على لحظاتِ موتِهم.

لم يضرم محمد البوعزيزي النّارَ بنفسِه في منزلِه، أو في أحدِ شوارعِ الحيِّ الّذي يقطنُ فيه. لكنَّه أضرمَ نفسَه بالنّارِ أمامَ مقرِّ ولايةِ سيدي بوزيد. أتَت هذه الحادثةُ بعدَ مصادرةِ البلديّةِ عربةَ فواكهَ وخضارٍ كان يقتاتُ منها الشّابّ. وبعدَ حادثةٍ ثانيةٍ: صفعةٌ على الملأ وجّهتها للبوعزيزي الشّرطيّةُ فادية حمدي الّتي رفضَت الشّكوى الّتي قدّمَها إثرَ مصادرةِ عربتِه. وتوّجَت الشّرطيّةُ فعلتَيها بكلمةِ: Dégage (انقلعْ من هنا). هل بقيَت هويّةُ المكانِ بعدَ الحادثةِ كما قبلَها، أي مرتبطةً بالصّفاتِ المكانيّةِ لمورفولوجيّةِ الشّارعِ وأطوالِ الأبنيةِ ولونِ العماراتِ؟ أم مرتبطةً بالبوعزيزي نفسِه؟

توالَت بعدَها أحداثٌ مماثلةٌ اتّخذت مواقعَ عدّةً، معظمُها أمامَ مبانٍ حكوميّةٍ وعلى الملأ، كمجلسِ الشّيوخِ في موريتانيا، أو كميدانِ التّحريرِ في مصرَ، أو كمقرّاتِ بلديّاتٍ في الجزائر. لحظاتٌ كهذه تدخلُ التّاريخَ الفرديَّ والجماعيَّ من بابِه العريض. تبدو لحظاتٌ كهذه كإعادةِ صياغةٍ وتركيبٍ للذّاكرةِ الجماعيّةِ والهويّاتِ والتّشابكِ القائمِ بين الإنسانِ والعمارةِ والمدينة. إلا أنّها تقومُ بأكثرَ من ذلك، فهيَ تؤكّدُ على نظريّاتٍ لطالما بقيَت غيرَ ملموسةٍ، وتفرضُ نفسَها كحقيقةٍ لطالما هربنا منها وكأنّها تقولُ إنّ الفضاءَ السّياسيَّ يحوّلُ العماراتِ من جمادٍ إلى سوائلَ فجمادٍ متحوّل. وبذلك يطرحُ أحدُ أهمِّ الأسئلةِ المعماريّةِ: هل هناك جوابٌ للحقيقةِ المعماريّة؟ وإن وجدَ، من يحدّدُه؟

المعمارُ الغائبُ والثّائرُ كمعمارٍ جديد

شهدَ دوّارُ اللّؤلؤةِ على أهمِّ الاحتجاجاتِ في البحرينِ عامَ 2011 وكانَ يعدُّ الفضاءَ الخلّاقَ لتلك التّجمّعاتِ والتّحرّكاتِ، وفيه قُتلَ العديدُ من المحتجّين. أنشئ الدوّارُ عامَ 1982، وفي وسطِه مجسّمٌ من ستّةِ أضلاعٍ، تمثيلًا لدولِ مجلسِ التّعاونِ السّتِّ، تعلوه لؤلؤةٌ تمثّلُ مهنةَ الغوصِ الّتي راجَت في دولِ الخليجِ لسنوات. وبعدَ أشهرٍ من الاحتجاجاتِ، هدمَت السّلطاتُ البحرينيّةُ الدّوّار. ولكنْ، ما الّذي هدمَته السّلطاتُ في الحقيقةِ؟ تنطوي عمليّاتُ هدمِ أماكنَ كهذه على اعترافِ السّلطاتِ بالهزيمة. وفي حالةِ دوّارِ اللّؤلؤةِ، يتّضحُ الاعترافُ بهشاشةِ المعنى الأساسيِّ لذلك النّصبِ (أو المبنى)، ألا وهو تضامنُ دولِ مجلسِ التّعاونِ والغوص. جاءت عمليّةُ الهدمِ كحقيقةٍ تامّةٍ تبيّنُ أنّ الموقفَ السّياسيَّ الّذي دامَ بضعةَ أشهرٍ طغى على وجودِ الدّوّارِ المعماريِّ القائمِ منذُ 1982. وأمّا الاستردادُ الوظيفيُّ للدّوّارِ على أيدي المحتجّينَ فجعلَ السّلطاتِ تفضّلُ غيابَه كلّيًا على وجودِه كشاهدٍ على قوّةِ الثّائرِ كمعمارٍ جديد. 

وتُمسي العماراتُ المجاورةُ الشّاهدةُ على أحداثَ كهذه ندوبًا في ذاكرتِنا الفرديّةِ والجماعيّةِ، ندوبٌ تولّدُ قصصًا تتوارثُها الأجيالُ من النّاسِ الذين أمّوا تلكَ السّاحاتِ وعبَروا أمامَ تلك العمارات. وسوفَ تتوارثُ الأجيالُ أسماءَ مستهلّي الاحتجاجاتِ بالنّارِ والجسدِ في غيابِ اسم ِالمعمارِ الّذي صمّمَ تلكَ المباني، بل في حضورِ الفردِ الّذي استعادَ ملكيّةِ العماراتِ والسّاحاتِ والمدينة. 

يقولُ جان پول سارتر التّالي: "جسدي في كلِّ مكانٍ: القنبلةُ الّتي تدمّرُ بيتي تدمّرُ أيضًا جسدي لأنَّ بيتي في البدءِ مؤشّرٌ لجسدي. ولذا، يمتدُّ الجسدُ دائمًا عبرَ الأداةِ الّتي يستخدمها". نسفُ الوجودِ المعماريِّ عادةً يأتي سريعًا، كعمليّاتِ الهدمِ الممنهجةِ، أو كعمليّاتِ التّفجير. وهنا يأتي الهدمُ المعماريُّ على شكلِ نسفِ المعنى الوجوديِّ عبرَ نسفِ الجسدِ نفسه. هناك درجاتٌ متحوّلةٌ من حدّةِ نسفِ العمارةِ عبرَ نسفِ الجسد. يأتي النّسفُ أعنفَ وموجودًا أكثرَ عندما يكونُ الجسدُ في حالةِ العارِ والذّلِّ كحالةِ البوعزيزي الّذي قيلَ له: dégage مع صفعةٍ على وجهه. 

هناكَ أيضًا فضاءاتٌ معماريّةٌ ولّادةٌ لهذا التّحوّلِ، أي تحوّلِ الهدمِ الإنسانيِّ عبرَ الذّلِّ إلى الهدمِ المعماريِّ عبرَ انعدامِ المعنى. تلكَ الفضاءاتُ الّتي احتضنَت انطلاقاتِ مسيراتِ الرّبيعِ العربيِّ، والانتفاضاتِ الّتي تلتها في العالمِ العربيِّ، مرتبطةً ارتباطًا مباشرًا بعكسِ "الپانوپتيكون" (panopticon). والأخيرُ هو نوعٌ من التّصاميمِ المعماريّةِ للسّجونِ الّتي تسمحُ لمراقبٍ واحدٍ أن يراقبَ جميعَ السّجناءِ من دونِ علمِهم (كسجنٍ دائريٍّ في مركزِه برجُ مراقبة). هذه الفضاءاتُ الولّادةُ تكمنُ في الجوامعِ والسّاحات. والجامعُ مكانٌ (من اسمِه) يجمعُ، وفيه تجربةٌ فرديّةٌ وجماعيّةٌ منتظمةٌ ومتكرّرة. وفضاؤه فسيحٌ، وسقفُه عالٍ، ولا جدرانَ تفصلُ النّاسَ عن بعضِها، بحيثُ الجميعُ يرى الجميعَ، والخطبةُ عادةً تتوزّعُ على المستمعينَ بالتّساوي. أمّا السّاحاتُ العربيّةُ الّتي كانت تسمّى بالميدانِ فكانت مرتبطةً بالطّبقةِ الحاكمةِ ولم تكن يومًا فضاءً مدنيًّا. وعلى الرّغمِ من تغيّرِ الوضعِ هذا ظاهريًّا، بقيت السّاحاتُ منبرًا للطّبقةِ الحاكمةِ حتّى يومِنا هذا. وأكبرُ مثالٍ على ذلكَ حركةُ 14 آذارَ وحركةُ 8 آذارَ اللّتان استخدمَتا نفسَ الفضاءِ المعماريِّ للاحتجاجِ السّياسيِّ وسطَ العاصمةِ بيروت. 

المنزلُ والفضاءُ السّياسيّ

بعدَ أحداثِ تحرّكاتِ 17 تشرين أوّل 2019  في لبنانَ، تغيّرَ الواقعُ المدينيُّ المعاشُ في المدينة. وإحدى أهمِّ عمليّاتِ النّسفِ المعماريِّ في بيروتَ العاصمةِ تخلّلَت استردادَ "الحقِّ في المدينةِ" عبرَ افتراشِ الطّرقاتِ والسّاحاتِ ونسفِ وظيفتِها المعماريّةِ بتغييرِ وظيفتِها المحدّدةِ، وفي بعضِ الأحيانِ، استردادَ وظيفتِها الأصيلةِ المحقّة. كما كانَ المشهدُ "التّخريبيُّ" يصبُّ مباشرةً في استردادِ المالِ العامِّ عبرَ هدمِ العمارةِ بعناصرِ العمارةِ نفسِها، أي عندما يأخذُ المحتجُّ حجرًا من أحدِ مباني سوليديرَ، ليهدمَ مبنىً آخرَ، وبذلكَ، يهدمُ سوليديرَ نفسَها بأدواتِها (أي بمبانيها).

استردادُ "الحقِّ في المدينةِ" تجلّى أيضًا في تحويلِ وظيفةِ الأبنيةِ الأثريّةِ والّتي كانَ بعضُها مغلقًا وغيرَ متاحٍ للعامّة. وأهمُّ ما حصلَ في هذا التّغييرِ الوظيفيِّ الموقفُ السّياسيُّ النّاتجُ عنها والّذي تمثّلَ في قلبِ موازينِ الپانوپتيكونَ، بحيثُ باتَ المتظاهرُ/ة هو المراقِبَ من أسطحِ وشبابيكِ تلكَ الأبنيةِ لتحرّكاتِ القوى الأمنيّة. استردادٌ من نوعٍ آخرَ جاءَ عندما دخلَ المتظاهرونَ أبنيةَ سوليديرَ الفارغةَ والقائمةَ على وسطِ مدينةٍ استولى عليه أصحابُ مشروعٍ يبغى الرّبح. وجاءَ هذا الاستردادُ اللّحظويُّ كتذكيرٍ بماضٍ بعيدٍ، بأنَّ التّحرّكاتِ الشّعبيّةَ لا تقومُ إلّا من خلالِ استردادِ اقتصادِ المدينةِ وعمارتِها. وتلكَ التّحرّكاتُ جاءت كتذكيرٍ عنيفٍ بأنَّ للفردِ الحقَّ في اختيارِ سكنِه الّذي هو يحدّدُه، حيثُ باستطاعتِه دمجُ الفضاءِ العامِّ بالخاصِّ من خلالِ تحديدِ خياراتِه بالسّكن. ولعلَّ أهمَّ صورةٍ جاءت في هذا الصّددِ، قطعُ متظاهرينَ جسرَ الرّينغِ ووضعُ أثاثٍ منزليٍّ على شكلِ غرفةِ جلوسٍ، غيرِ مؤهّلةٍ للمشاةِ أساسًا، في الفضاءِ العامّ. ويجسّدُ هذا الفعلُ قولَ المعماريِّ ألبيرتي "البيتُ مدينةٌ، والمدينةُ بيت". 

أرشفةُ العمارةِ في اللّحظة

هناك وعيٌ جماعيٌّ وفرديٌّ عن علاقاتِنا بالمدينةِ، ونسفُ العمارةِ عبرَ استردادِها يقتضي بالمحصّلةِ أرشفتَها كحاضرٍ قائمٍ وملموس. والعملُ السّياسيُّ يغيّرُ الذّاكرةَ الجماعيّةَ المرتبطةَ بالمباني بحيثُ يمسي التّياترو الكبيرُ مبنىً أثريًّا فنيًّا، لكنّه يصيرُ أيضًا شاهدًا على عملٍ سياسيٍّ أرشَفَ في المبنى وأجرى تعديلًا على وجودِه المكانيِّ والزّمنيّ. 

بعدَ مضيِّ 11 سنةٍ على حادثةِ البوعزيزي في تونسَ، أقدمَ اللّبنانيُّ علي محمد الهقّ على إطلاقِ النّارِ على نفسِه في شارعِ الحمرا ببيروت. على يسارِ الجثّةِ، حيثُ سقطَت، مطعمُ "كبابجي" و"مسرحُ المدينة". وتحتَها، "مترو المدينة". وعلى يميِنها، مقهى الرّصيفِ "دانكن دونتس". ويشكّلُ تجمّعُ تلكَ المواقعِ محطّةً لكلِّ "سارِحٍ" في فضاءاتِ المدينةِ (Flâneur، كما سمّاه الفرنسيّون). وقد اتّخذَ تعريفُ العبارةِ الفرنسيّةِ أبعادًا جديدةً بعدَ الثّورةِ الصّناعيّةِ ودخولِ أوروپا عصرَ الحداثةِ، بحيثُ أعادَ "السّارِحُ" تحديدَ علاقاتِ الفردِ بالمدينةِ من خلالِ إعطاءِ الفردِ وظيفةً جديدةً، وهي الاسترسالُ في الفُرْجةِ والتّجوالِ البصريِّ والجسديِّ في الأحياءِ والأزقّةِ.

وقبالةَ الجثّةِ، كنيسةُ مدرسةِ القدّيسِ فرنسيسَ للآباءِ الكبّوشيّين. وتحيطُ بتلكَ البقعةِ أبنيةٌ تُعدُّ من أهمِّ طرازاتِ العمارةِ الحديثة…

طلقةٌ واحدةٌ، تلاها سقوطُ جثّةٍ، كانت كفيلةً بنسفِ معنى المطعمِ والمسرحِ والمقهى والكنيسةِ، ومعه مفهومُ "السُّروحِ"، لتجري في تلك اللّحظةِ إعادةُ تركيبٍ لكلِّ ما عهدناه من وظائفَ معماريّة.

لقد أعادَ الرّبيعُ العربيُّ وما تلاه من أحداثٍ تذكيرَنا بأنَّ أرشفةَ العمارةِ وتحديدَ وظيفتِها واستردادَها لا تكتملُ إلا في أشكالِ العملِ السّياسيِّ الملموس.

__________________

  1.  قال وزيرُ خارجيّةِ البحرينِ في تصريحٍ : هدَمْنا "تمثالَ اللّؤلؤةِ" للتّخلّصِ من ذكرى سيّئة (المصري اليوم، 18 آذار 2011) 
  2.  مترجمٌ عن الإنكليزيّة. Rabbat, Nasser. The Arab Revolution Takes Back the Public Space. Critical Inquiry , Vol. 39, No. 1 (Autumn 2012), pp. 198-208. The University of Chicago Press, p.202.
  3.  نشأت حركةُ 14 آذارَ إثرَ اغتيالِ رئيسِ الوزراءِ اللّبنانيِّ رفيق الحريري وتألّفت من عدّةِ أحزابٍ وحركاتٍ سياسيّةٍ، وسمّيَت بِ 14 آذار لأنّه اليومُ الّذي أقيمَت فيه مظاهراتٌ في ساحةِ الشّهداءِ وسطَ العاصمةِ بيروت. نشأت حركةُ 8 آذار كحركةِ معارضةٍ لحركةِ 14 آذار، واتّخذَت ساحةَ رياض الصّلح وسطَ العاصمةِ بيروتَ كمكانٍ لاعتصامِها. 
  4. احداثُ 17 تشرينَ هي سلسلةٌ من الاحتجاجاتِ والمظاهراتِ والمواجهاتِ بين المتظاهرينَ والقوى الأمنيّةِ الّتي امتدّت بينَ عامَي 2019 و 2020 وشملَت عدّةَ مناطقَ في لبنان.
  5. تتخلّلُ هذه الأبنيةُ التّياترو الكبيرَ في ساحةِ رياض الصلح من تصميمِ يوسف أفتيموس والّذي بدأت عمليّةُ بنائِه عامَ 1927، والسّيتي سنتر، أو ما يعرفُ بالبيضةِ، من تصميمِ جوزيف فيليپ كرم، وشيّدَ عامَ 1965.
  6. سوليديرُ شركةٌ مشتركةٌ بين الدّولةِ والقطاعِ الخاصِّ قامت بإعادةِ إعمارٍ لوسطِ البلدِ في بيروتَ بعدَ تضرّرِه من الحربِ الأهليّة.
  7. ساحةُ الرّينغِ في بيروتَ هي امتدادٌ لجسرِ فؤاد شهاب، والّذي شقَّ المدينةَ عامَ 1969 من ضمنِ سلسلةِ مشاريعِ بنىً تحتيّة.

الصورة: دوّار اللؤلؤة تحوّل إلى تقاطع مروري بعد هدمه

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button