نستضيف، في حوارنا هذا، تينيسي ويليامز، الكاتب المسرحي الأميركي الذي أبصرت معظم أعماله النور في صالات السينما، ومعها أبصر نور شخصيات فريدة خلقها من صلب حياته، شخصيات من اللامنتمين واللامنتميات مثّلوا غرباء عصره. 

أول مسرحية "ناجحة" له كانت مرآةً لحياته الأسرية المضطّربة، حيث أعلن في مرحلة مبكرة عمّا سيصبح قريباً: لامنتمياً إلى جوقة الضجيج. عاش إبن الميسيسيبي اللاإنتماء منذ أن كان يافعاً. فالفنان، والمثلي المنبوذ، والمريض المجنون يعطيك ما يكفي من إشارات لتعرف أن حدّاً فاصلاً وُضع منذ زمن بينه وبين العالم من حوله. كتب في مذكراته: مكاني في المجتمع كان… دائماً… في بوهيميا. أحب أن أزور الجانب الآخر كلّ فترة، ولكن خِتمُ بوهيميا مطبوع على جواز سفري من دون أي ندم." فإذا أردت أن تقابل شخصيات وليامز اللامنتمية، إيّاك أن تبحث عنهم في الأمكنة المعتادة.

أهلاً وسهلاً سيّد وليامز، كيف حال المسيسيبي وأهله؟

بخير، بخير، على حالهم منذ مئة عام وأكثر

يا زمن. أستاذ وليامز. هل من عوامل ذاتية وموضوعية تسهم في تحوّل شخص "عادي" إلى شخص "لامنتمي"؟ وكيف يقرّر اللامنتمي في تلك اللحظة التعامل مع محنته؟

يمكننا تمييز اللامنتمي من خلال وصف شعوره بالغرابة ونظرته إلى الواقع بصفته "غير واقعي". يخوض اللامنتمي صراعًا ميؤوسًا منه ضد عالم يعمل بلا هوادة على تدميره. إذا كنت ذاك الشخص المجنون أو القلِق أو المختلف جنسياً، أو الضعيفً أو المهاجر، أو الشاب الذي فشل في حياته، أو الحسناء الجنوبية (إي من ولاية جنوبية في الولايات المتحدة فُرضت عليها ضوابط مجتمعية)، لن يُسمح لك أن تكون حرّاً وجزءاً من الكلّ. وبالتالي فإن اللامنتمي يتم استبعاده بشكل غير عادل من مجتمعه، ويتم تصنيفه ووصمه: إنهم "مجانين" و"منحرفون جنسيًا" و"فاسقون" و"فاسدون". وعلى الرغم من جميع هذه الأوصاف، فإن اللامنمتي هو الشخص الذي يعبّر عن حساسية خاصة تجاه أهوال الوجود… هناك شيء ما في التكوين النفسي للغريب يجعل الواقع صعب التحمّل والعالم الحديث غير قابل للعيش. 

وكيف ينعكس ذلك في شخصياتك المسرحية؟

أن تكون شخصية في أحد أعمالي المسرحية يعني أن تكون حساسًا ومصاباً بالاستلاب في عالم قاسٍ وغير مضياف.

عشت حياتك لامنتمياً، بل أكثر من ذلك، يقول النقاد وكتّاب سيَرك الذاتية أن حياتك مدوّنة في كتاباتك، وكتاباتك تعيش في حياتك.

صحيح. لقد قالوا مراراً وتكراراً أن أعمالي شخصية للغاية. ولقد كنت مصرّاً على مواجهة هذه التهمة بتأكيدي على أن كل الأعمال الفنية الحقيقية يجب أن تكون شخصيّة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ويجب أن تعكس المشاعر المناخَ العاطفي الذي يعيشه خالقها. 

لكي يولد مفهموم اللامنتمي، يجب أن يكون هناك مفهوم موازٍ على الضفة الأخرى، شيء يفرض حدودًا ويميّز اللامنتمي.

طبعاً، إنه "المنتمي"، أي الفرد المَحمِي من اكتشاف ذاته وما يحيط به من أهوال، المحمي باللاشعور، أو انعدام الحساسية، وبالتماهي مع القويّ ومع الجماعة المهيمنة في المجتمع وبتبنّي تقاليدها. المنتمي محميّ من رؤية العالم كما يفعل اللامنتمي. أن تكون لامنتمياً (في الخارج)، يعني أن تكون قادرًا على رؤية ما يحصل في الداخل، وبعمق حقيقي، وبالتالي يعني ذلك أن تجربتك ستكون مختلفة عن الآخرين الذين انتموا وغرزوا أقدامهم في الروتين. يعمل المنتمون بشكل مستمر وجماعي، على إقصاء اللامنتمي ودرء خطره والتخفيف من أثر طيفه على الحياة اليومية. يطردونه إلى الخارج، ولذلك نسمّيه باللغة الإنكليزية (Outsider). فهو في آن معاً، يخرج في لحظة الوضوح طوعاً، ويعمل الآخرون على إقصائه دائماً. 

"هبوط أورفيوس"

يتبع اللامنتمي مسارات مختلفة بناء على تجاربه السابقة والظروف التي يعيشها. هناك نوع من اللامنتمين يعيش حياة غير مستقرة، يعيشون في تنقّل دائم، يبدأون مشوارهم مجدداً بلدة تلو الأخرى، كما لو أن أحدهم يبحث عنهم ويريد قتلهم. عيّنة من هذا النوع تقدّمها للقارئ في عملك المسرحي "هبوط أورفيوس" الصادر في 1957. هل يمكنك أن تحدثنا عن هذا النوع من اللامنتمين؟

المسرحية هي إعادة سرد لأسطورة أورفيوس اليونانية القديمة في سياق معاصر، وتبحث في قدرة الشغف والفن والخيال على إضفاء معنى جديد للحياة. تدور أحداث القصة في بلدة في ولاية جنوبية صغيرة غارقة في الرتابة والكبت الجنسي وضيق الأفق والعنصرية. في المقابل، يظهر الشاب العصري "فال" في سترة جلدية أنيقة، حاملاً معه غيتارًا وطاقة وجاذبية هائلة، وماضٍ عليه علامات استفهام. باختصار، تصف المسرحية إيقاظ ومِن ثم قمع العاطفة والحب. هذه هي مأساة الإنسان، وتحديدًا اللامنتمي. إلا أن هذا الشاب ليس مجرّد كائن شهواني يعيش من أجل إشباع رغباته، بل على العكس، لا يسعه إلا أن يعبّر عن رعبه من حقيقة أن هناك أشخاصًا يُشترَون ويُباعون في هذا العالم مثل لحم الخنازير. وهذا الرعب يجعل فال جزءاً من النوع "الهارب" من اللامنتمين الذي يجولون بين مكان وآخر ليتحرروا من ذنبهم ومن ويلات المجتمع. 

في المقابل، تقدّم لنا "لايدي" كنوع آخر من اللامنتمين. هي لامنتمية مثل فال، ولكنها نقيضه. فهي لا تؤمن بأن الطائر الحرّ هو كائن حقيقي. رفضها للطائر هو رفض للحرية التي يجسّدها. 

صحيح، على عكس فال الذي يعتقد أنه لم يقع في شباك المجتمع والتصنيفات قط، وُضعت "لايدي" في قفص الزوجية حيث لم تعش سوى الأسى. وبالتالي، ستبقى دائمًا في القفص رغم إدراكها أنها رهينة المجتمع. وهذا يعني أنها تلقى حتفها في نهاية المطاف لأنه ممنوع عليها أن تبدأ حياة جديدة. 

"عربة اسمها الرغبة"

في بداية مسرحية "عربة اسمها الرغبة" (A streetcar named desire)، التي تحوّلت إلى فيلم هوليوودي من بطولة فيفيان لي ومارلون براندو، تحاول بلانش، الشخصية الرئيسية في مسرحيتك، الوصول إلى شقّة أختها التي تعيش في المدينة الكبيرة. وفي غمرة الضياع تستوقفها امرأة وتسألها إذا كانت تائهة وما إذا كانت بحاجة إلى مساعدة. تجيبها بلانش بارتباك في أول سطر لها في نص المسرحية: "قالوا لي أن أركب عربة ترام اسمها "ديزاير" (الرغبة)، ثم الانتقال إلى أخرى اسمها "سيميتريز" (المدافن)." أستاذ وليامز، هل تلخّص الحياة بأنها مسار يبدأ بالرغبة وينتهي في المقبرة؟

بالطبع، وبين الرغبة والمقبرة نحاول أن نخلق توازناً بين المعقول واللامعقول. لهذا السبب قررت بلانش ترك منزل العائلة الفخم والسير نحو المجهول لتسكن مع أختها ستيلا في شقة صغيرة في المدينة الكبيرة. ففي مسقط رأس العائلة نيو أورلينز، كانت الحياة سهلة قبل أن تغرق عائلة "دو بوا" بالديون. ولكن محاولة بلانش خلق توازن في حياتها لا يعني هروبها من المسؤولية. بل توضح لأختها أنها بقيت في نيو أورلينز من أجل العائلة في حين غادرت ستيلا منزل العائلة كي تنسى كل شيء وتدبّر أمورها فقط. تصرخ بلانش: "بقيت وكافحت! أنا، أنا، تلقيت الضربات في وجهي وجسدي! كل هؤلاء الموتى! موكب طويل إلى المقبرة! أبي، أمّي! الجنازات هادئة، ولكن الموت ليس كذلك… في بعض الأحيان يصرخ الأموات في وجهكِ "لا تدعيني أذهب!" بمعنى آخر، بلانش اللامنتمية ليست الفرد الذي ينطلق في رحلة بعيداً عن العائلة. اللامنتمي هنا هو الشخص الذي يشعر برهبة الموت، ويدرك أن الجنازات هي تجمّعات لا معنى لها لأشخاص لا يكترثون لأي شيء. الأمر الوحيد الحسن في الجنازات هو أنها هادئة في معظم الأحيان ومزينة بأزهار جميلة.

تمرّر في المسرحية إشارات حول مدى صعوبة الانفتاح على الآخر، الغريب، ومشاركة مشاعرنا معه. في مشهد قاسٍ، وأثناء شربها كأس ويسكي تلو الآخر، تفتح "بلانش" نافذة إلى قلبها قبل القفز منها إلى عتمة الهيستيريا: "نعم، كان لدي العديد من العلاقات الحميمة مع الغرباء. بعد وفاة "آلن"، كانت العلاقات الحميمة مع الغرباء هي سبيلي الوحيد من أجل ملء الفراغ في قلبي... أعتقد أن الذعر، الذعر فقط، هو ما دفعني من رجل غريب إلى آخَر، وربما كنت أبحث عن بعض الشعور بالأمان بين أحضان رجل هنا أو هناك، في الأماكن الخطأ، حتى أخيرًا بين أحضان صبيّ يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، ولكن صاحب الشقّة بلّغ عنّي: "هذه المرأة غير لائقة أخلاقياً!". تتحدّث بلانش عن تذوّق طعم الأمان والحب مع الغريب، ولو لبرهة… يمكن للشخص الغريب أن يكون مصدر أمل ودعم، ولكنه أيضًا في كثير من الأحيان سبب للعذاب والدمار، مثله مثل باقي المنتمين الذين نصادفهم في الشارع.

بالتأكيد، مصيرها، كامرأة لامنتمية هو مصير العديد من النساء في أعمالي المسرحية. مصيرها أن تخسر أمام قوة وسلطة الرّجل، أو أن تستسلم لجراحها، جسديًا أو عقليًا. على حافة الجنون، تقول "بلانش" لطبيب لطيف يأخذها إلى قسم الطب النفسي: "لا أعرفك .. ولكني اعتمدت دائمًا على لطف الغرباء."

"كبش فداء"

تقول جوليا كريستيفا أن "الإقصاء ضروريّ لوجود الدولة واستمراريتها. فكما تشكّل البصمة النفسية روح الفرد، تشكل المجموعة نفسها من خلال إقصاء ما هو مختلف عنها." فمن المؤكد، أو الحتمي، أن يبدأ اللامنتمي بطرح أسئلة تزعج الجماعة المسيطرة. وهنا يبدأ تفشّي العنف ضد الآخر الغريب في كثير من المنعطفات التاريخية كأحد تجليات هذا الاضطراب الجماعي. على المستوى النفسي، هل يمكن القول أن ظاهرة اللامنتمي هي نوع من الاضطراب العصبي (Collective neurosis)؟

ربما، إذا اعتبرنا أن اللامنتمي يعبّر عن رغبة (سؤال) لم تتحقق (لا جواب). ولكن في الواقع المضطرب الخطِر هو ذلك الذي يريد إقصاء الآخرين أو استعبادهم. المنتمي هو أولئك الذين يملكون القوة من دون أن يملكوا عمقاًَ يساعدهم على فهم الأمور. أما اللامنتمي فهو الأكثر وعياً، وعلى الرغم من أن هذا الوضوح يمنحه القلق، إلا أنه مندفع بشكل صحّي إلى شغفه وإحساسه تجاه العالم ومن فيه. اللامنتمي هو السليم في عالم مريض لا يكترث لكل هذا الحطام. أما الجموع، فهي تبحث منذ آلاف السنين عن غريب تعاقبه، عن كبش فداء، أليس كذلك؟

صحيح، صحيح يا أستاذ وليامز، شكراً من رحلة على مشاركة حياتك ومسرحياتك، وكما تقول الأنشودة الجهادية:

"غرباء، وارتضيناها شعاراً للحياة / غرباء، هكذا الأحرار في دنيا العبيد" 

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button