المكان: مدرسة "ليسيه فردان" ببيروت، وهي إرسالية علمانية فرنسية.

الزمان: السنة الدراسية 1986-1987.

المقرَّر: ألعاب مسرحية - نشاط اختياري لاصفّي خارج المنهاج التربوي.

الوقت: الساعة الثالثة بعد ظهر يوم ربيعي. 

تسعة تلاميذ، جلّهم بين السابعة والتاسعة من العمر، دلفوا بعد الدوام، الى أحد الصفوف في المدرسة الكبيرة المرموقة. وقد اختاروا نشاط الألعاب المسرحية، كل لسبب ما لم أعد أذكره. "تقوية الشخصية" كان سببًا مميزاً همس لي به والد هاني أصغرهم سنًا وشديد الحياء. لكن "حب التمثيل" تكرّر أكثر من مرة عندما سألتهم لماذا رغبوا في الانتساب إلى ذلك النشاط.

وحب التمثيل في الصغر لا يتطوّر، في ناحيتنا من العالم وفي غالبية الأحيان، الى ذلك الشغف العارم الذي يدع الصغير يحلم بمستقبل يرسمه لنفسه قائمًا على إرادة التعبير والقول وإثبات الذات بواسطة الموهبة والإبداع والعلم.

فأول ما يفعله الأهل الذين يرفضون مصيرًا يرونه بائسًا لأطفالهم هو "سرقة" ذلك الشغف منهم من خلال صدمهم مرارًا وتكرارًا بذرائع مخيفة كالدين وفقر الحال وسوء السمعة... حتى يتخلى شطر كبير من الحالمين الصغار عن حلمهم في التمثيل أو الرقص ومجمل  الفنون.

وهذا ما أفترضه أنه حصل لتالة الصغيرة المبدعة التي تجلّت شخصيتها وبرعت في الألعاب المسرحية التي كنا نلعبها في ذلك النشاط اللاصفّي.

كانت المرة الأولى التي أتعامل فيها مع مجموعة صغيرة من الأطفال بنمط تفاعلي ومباشر، بهدف تركيب عروض سريعة تُعالَج مواضيعها على مدى ساعة من الوقت. وتبقى الساعة الأخيرة لتقديمها أيضًا داخل الصف أو في الملعب أو أي فضاء فارغ تتيحه لنا إدارة المدرسة.

وكنت اتطرّق معهم إلى مواضيع مختلفة تتناول أفعالًا ومواقف من الحياة اليومية وأيضًا إلى السينوغرافيا لتركيب المَشاهد.

في ذلك اليوم الذي أحب أن أسميه "يوم تالة"، تناولنا موضوع السرقة. وتطلّب التنفيذ دخول منزل والتفتيش عن مجوهرات وسرقتها.

تطوّعت تالة وزميلها الأصغر هاني الذي نجح بعد وقت قصير في التغلّب على حيائه. وراحا يرتّبان الكراسي والطاولات في شكل مرتجَل لتنفيذ ديكور المشهد.

وكنت أساعدهما في الأعمال التي تتطلّب قدرة جسدية يفتقر إليها الصغار عمومًا، كوضع طاولة فوق طاولة وتشقيع الكراسي وتوسيع ساحة العرض... وكنت سعيدًا أبدي منتهى تجاوبي لكل ما كانا يطلبان مني تنفيذه. 

وفي النهاية، تحوّل الصف إلى... "منزل"، نعم! إلى منزل. تخيّلوه فإن بعض الخيال فرح ونشوة.

بدءا المشهد بالتفتيش عن منفذ الى داخل المنزل وكنا انا والسبعة الآخرون نلحق بهما إلى حيث يتّجهان.

استطاعا الدخول من "نافذة" مفتوحة هي الفراغ الذي يتشكّل بين طاولة فوق طاولة.

وكان "عتمٌ" في الداخل فأضاءا مصباحين على البطارية مرتَجَلين، واحد مسطرة بلاستيك قصيرة والثاني قلم Bic، ولكنهما مصباحان... شئتم أم أبيتم أعزائي القرّاء.

جالا في أرجاء المنزل بحذر شديد للاستطلاع. ثم قررا الافتراق لكي يكسبا الوقت في تحديد مكان المجوهرات، فذهب كل منهما الى ناحية من المنزل.

دخلت تالة غرفة النوم. وإليكم ما فعلته:

بعد إلقائها نظرةً سريعة على المكان على ضوء مصباح البطارية. حددت الخزانة وتوجّهت إليها. فتحت إحدى درفها ومدت يدها اليسرى الى الدُرج (وهو فعليًا درج طاولة الدراسة).

وما إن فتحت الدُرج، حتى أشعلت مصابيح السقف بالضغط على الزر الذي صادف وجوده في متناول يدها اليمنى.

اقشعرّ بدني لشدة دهشتي إذ أيقنتُ ما الذي ستفعله تاليًا. وبالفعل، أغلقت الدُرج وفي اللحظة نفسها أطفأت المصابيح.

ركض الصغير هاني نحوها وصرخ "وجدّتيها!" فطلبت منه أن يخفض صوته خوفًا من انكشافهما ثم تهامسا. ولدهشتي الثانية، قررا أن ينهيا المشهد عند هذه النقطة.

أنا صفّقت كثيرًا حتى التهب كفّاي. لكن التلامذة الآخرين سألوهما لماذا لم يسرقا المجوهرات.

وهذا يعني أن الجميع عرف أن نور مصابيح الصف كان بالفعل تجسيدًا ذكيًا فطريًا وبديهيًا لبريق المجوهرات الذي أفل عند إغلاق الدُرج وهي لا تزال في داخله.

ولكن، لماذا لم يسرقا المجوهرات؟ 

أجابت تالة: "يكفيني أني وجدتها وأما السرقة فلا أحبها". تالة لا تحب السرقة ومع ذلك سرقت عقلي، إذ أبت أن تسرق "اللاشيء" من الدُرج. لم يكن فيه شيء لكنها ملأت فراغه بكنز برّاق من حلى ذهبية وفضّية وماسيّة سطعت أمامنا... ولكم أن تتخيّلوها... ورفضت أن تأخذها. 

ذلك الكنز هو من صنع خيالها، أي أنها مالكته الفعلية. ولو كانت الملكية الفكرية رائجة في بلد سرقة الأحلام ذاك لاستطاعت تسجيل فكرتها المجسّدة.

تالة لم تسرق لأنها لا تحب السرقة مع أنها أتقنت أداء شخصية اللصة السرّاقة بكل حرفية تمثيلاً وديكورًا مطوّعةً كل ما خرج من مخيّلتها ووقع تحت ناظريها ويديها. في تلك اللحظة، كانت ممثلةً ومخرجةً متعددة المواهب والكفاءات... ولكنها لم تكن لصّة.

وككل مرة بعد لعبنا الهادف، أعدنا ترتيب المقاعد على ما كانت عليه قبل "بناء المنزل", ثم خرجنا. وركض التلامذة نحو أهلهم الذين كانوا في انتظارهم وغاب الجميع.

أما أنا فمشيت في شوارع بيروت لا ألوي على شيء، ثملًا من تلك الجرعة القوية من الإبداع والأخلاق التي أفرزها عقل تالة الصغيرة.

ثم بدأت تتواتر الأخبار التي تُثلج القلوب:

- سرقوا مدير مدرسة تالة وهو فرنسي. سرقوه هو وليس أغراضه وممتلكاته. ففي تلك السنة وما قبلها وما تلاها، درجت سرقة - خطف الأجانب مقابل فدية. ثم أفرج عن المدير وسافر ليشغل المنصب نفسه في اليونان.

وبسرقة المدير ثم سفره، انسرق معه نشاط الألعاب المسرحية. وسُرقت أيضًا سنتان من الجهود والآمال في ترسيخ ذلك المفهوم التربوي الراقي.

سنتان فقط! هاهااااا… سُرق العمر كله يا تالة.

الصورة: جون تيبول مينديز، 1919

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button