قصتي مع فلسطين قصيرة حصلت في 1976. وهي بعيدة جدًا عن تأثيرات السياسة. لكن عليّ أن أفصح أولاً عن أن انتسابي إلى الحزب الشيوعي اللبناني شكّل همزة وصلي بالفلسطينيين.

كان عمري 18 سنة، عندما توجّهتُ للمرة الأولى من قريتي في عكّار، شمال لبنان، إلى مخيّم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، بصحبة مجموعة رفاق-أصدقاء، قاصدين مقر الجبهة الديمقراطية. (وهذا كل شيء في قصّتي يمتّ إلى السياسة بصلة.)

دخلنا المخيّم ورحتُ أنا السمين ألهث خلف أصدقائي الرشيقين وهم يجوبون أزقته بخطى سريعة، بينما أتعثر بالمارة في سعيهم اليومي. وصلتُ إلى منعطف حاد فطالعني زقاق ضيّق جدًا حسبتُه ينغلق في وجهي. ناديتُ أصدقائي فلم يجيبوني، فبقيتُ واقفًا أتردد في الدخول.

ولمّا هممتُ باللحاق بهم، عضّني فَمُ الزقاق ومنعني من عبوره. وجدتُ نفسي في وضعية "تأهَّبْ" العسكرية، رأسي وعنقي منجذبان إلى أعلى وكتفاي منحصرتان بين جدارين لعمارتين متجاورتين، بل متلاصقتين. ألتفتُّ إلى الوراء بصعوبة فرأيتُ المارّة احتقنوا خلفي. 

ورغم أني كنت أعرقلهم، رفضتُ أن أدير جسمي قليلًا وأسير بخطى جانبية لأعجّل مرورهم. أصابتني حالة حنق، فقررتُ أن أشقّ طريقي شقًا، جارفًا بكتفيَّ الغبار وماحيًا رسومًا وخربشاتٍ نفّذها أطفال بالطباشير الملوّنة.

(غريب وجود تلك الرسوم في مكان لا مجال لتأملها بروية كما لو كانت معلّقة على جدران معرض. وتَحْسَب أن رسّاميها طيور طنّانة تظل تروح وتجيء محلّقة في ضيق المكان ترشقه بألوان أجنحتها!)

بقيتُ أتقدّم. ولما بلغتُ نهاية الزقاق، انقذف جسمي إلى ساحة صغيرة، وأنا أتصبّب عرقًا وألهث، وقميصي متّسخ.

أصدقائي ضحكوا عليّ كثيرًا، واستغربوا تصرّفي الأرعن وعنادي إذ رأوني أكزّ على أسناني لمصارعة قوة الاحتكاك بإسمنت الجدارين.

ضحكتُ معهم على نفسي. ثم بكيتُ وحدي. ثم غضبتُ كثيرًا. أغضبتني طريقة العيش في ضيق مستمر ومتفاقم. كانت المرة الأولى التي أواجه فيها بؤسًا لم أعهده من قبل، ترزح تحت ثقله وجوهٌ هادئة.

بقيت هذه الحادثة عائمة في ذاكرتي، تحضر سريعّا كلما رأيت رسمًا أو خربشة لأولاد على جدار.

لم يكن طول ذلك الزقاق يزيد عن 5 أو 6 أمتار. وبعدما علقتُ فيه، تهيّأ لي بخيالي الواسع فيما بعد، أن لعبور الزقاق الضيّق بيسر، على المارة أن يتحوّلوا رسومًا ثنائية الأبعاد، ينسربون كالماء على سطح الجدار، من طرف إلى طرف حيث يستعيدون هيئاتهم البشرية.

ومع كل خطوة كنت أخطوها نحو تلك الساحة الصغيرة كان غضبي يزداد: كيف يعيش الناس في حصار مستدام؟ في حريات مسجونة؟

أم لعلّ في الرسم المسطّح مسودّة لمكان آتٍ، لحياة آتية. وصرت أربط صمود الفلسطينيين بهذا النوع من التحولات: كلما ألمّت بهم نكبة جديدة، تحوّلوا مسودّاتٍ لمصائر مختلفة، لمصائر أفضل. مسودات جاهزة للتنفيذ بعد انصراف نكبة جديدة أو عبور زقاق.

بعد 33 سنة، في 2009، دُعي ابني (15سنة) الى نشاط ثقافي في مخيّم برج البراجنة، بضاحية بيروت الجنوبية. كانت تمارين على عرض ممسرح لقطع أدبية ألّفها مراهقون مثله يعيشون في غزة. "مونولوغات غزة".

في مساء ذلك اليوم، عاد متأثرًا بما رآه في المخيّم. وكرّر تساؤلي القديم نفسه "كِيفْ عايشين؟" وحزن. رويتُ له قصتي في مخيّم البارد والرسوم المسطّحة، قبل أن ينصرف الى حياته.

وحين ظهر رسم لفتاة صغيرة تلتقط بالونًا أحمر على جدار الفصل الإسرائيلي، قلت "ها قد بدأ الفلسطينيون يعِدّون مسودّات جديدة لحياة أفضل."

وفي 7 أكتوبر 2023، حدثت فجوة كبيرة في الجدار وفي المألوف. وما تلا طوفان الأقصى، محاولة إسرائيلية عنيفة لمنع الفلسطينيين من رسم رسومهم المسطّحة. فدكّوهم مع بيوتهم لئلا يبقى جدار يشكل دفترًا لرسومهم… لصمودهم.

وحيفا من هنا بدأت

وأحمد سُلَّم الكرمل

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button