"إنّنا أعظم جيل لأعظم مرحلة، لأننا مضطرّون أن ننتزع أشواكنا بأيدينا، ولأنّنا لم نرث سوى هزيمة فاحشة، ولم نتزوّد سوى بمجهول آت، وعلينا لكي نعرف أي شيء، في أي زاوية مظلمة أن نشتغل فيها، إننا نبتكر حريّتنا قيداً قيداً وفضاءً فضاءً، بينما المقصّ يتدخّل بين الشهيق والزفير وأننا مضطرون الآن لحريّتنا كلّها، إننا على عتبة الشعر".

- محمد العبدالله

منذ السابع من أكتوبر 2023، استحال فعل الكتابة. أحاول قدر الإمكان، وفي العموم، أن أنتشل الأنا من النصوص. كيف للأنا أن تظهر أمام جموع من الموت؟ أعرف أن العامّ هو تراكم الخاصّ، لكن الأنا تربكني. أنا أعتقد، أنا أحلل، أنا أناقش، أنا أفكر أنا اكتب… أو كما قال أحد الشعراء يومًا: "ما يشغلُ أكثر هو ما نتحدث عنه أقل. ما وُجِد دومًا في العقل لم يكُن يومًا على الشفاه".1

استحال فعل الكتابة أمام الطوفان وفيه، وكأن الأخير ابتلع اللغة ومآلاتها، فبات هو الحقيقة والرمز والخيال والواقع. كيف نكتب؟ تنزلق الحروف أمام يمّ من الدم الكسيح. هنا، لا مجال لأي شيء خارج الطوفان. لم أكتب. كان التضامن حينها شكل من أشكال الصمت التام. إضمار في اللغة والصوت، هناك حرمة ما في السكون العميق أمام هول الفاجعة. صمت يرافقه ترقّب، متابعة كثيفة وتسجيل دقيق للأحداث داخل الجمجمة. مرّوا من هنا، اجتاحوا هناك، قصفوا المستشفى، أغلقوا المعابر. أتابع في صمت، ما الهدف من الكتابة؟ هناك ضوضاء كثيفة تحيط بنا.

تأكلنا الفاجعة، من غزّة إلى تخوم جبل عامل، مرورًا ببيروت. تأكلنا الفاجعة والفكرة أيضًا، وبينما ينشغل المُستعمِر في صناعة المشهد والصورة، ننشغل نحن بصناعة الملحمة الكُبرى: الفكرة. أمامنا ركام هائل، يستحقّ جنَة بأكملها إن عبرنا إلى الأبدية. وبين جزيئات هذا الركام أنظر إلى القُرى والمدن، أو ما تبقّى منها. طمرني الردّم، وعرفت معنى الالتحام مع العمارة. كيف يسقط المبنى، كيف تُمحى المُدن، كيف يرانا المُستعمر من قمر صناعي في سماء ألفناها، وفي هذا الكمّ الهائل من الرُكام والردم والأجساد المطمورة بقيت الفكرة، بل كَبُرَت الفكرة. كلّما زَخَر غبار الردم وأبهم المشهد، لمعت الفكرة عنيدة ثابتة لا تتلكأ: سوف ننجو، علينا أن ننجو، المُستعمر إلى زوال، رغم اندثار كلّ ما نملك، تبقى الفكرة.

ورغم ثبات الفكرة، كان القلق يجترّ نفسه. رغم ثبات الفكرة، كانت الذاكرة تجترّ نفسها أيضًا. أحيانًا، تعيد الحرب عقلنة الأشياء، تفكّك معانٍ ألفناها، وصور شهدناها، كصورة جدتي التي عرفت وجهها من صورة دافئة. حرمتني اسرائيل ذاك الوجه حين استهدفتها عند تخوم إقليم التفاح وجزّين في العام 1991. عرفت العدوان، وعرفت الشرّ المطلق، وعرفت اسرائيل. عرفت أيضًا مجموعة نمالٍ لطيفة، مشهدُ في منزلي في رأس بيروت، عام 1995.

نملة واحدة تخرج من ثقب في خشب باب المنزل. أراقبها، تخرج قليلا، تعود وتنطوي داخل الثقب.

أحيانًا، تخرج النملة لتأتي بالطعام لباقي النمل، وكأنها مسؤولة عن إطعام كل الكائنات الحية داخل الخشب. تعيشُ النّمال في الأنفاق، تحفر مساراتها ومدنها في الرّدم والمواد، تعيش عيشة كاملة داخل الأنفاق. تطوّرت تقنيات النّمال عبر الزمن، وطرق تعاونها باتت أكثر ذكاءً. التضامن بين النمل الآن مغاير لما كان سابقاً. إحدى تقنياتها تُسمّى تجنّب الازدحام. أي، جموع النّمال لا تزدحم ولا تعوّق مسارات بعضها البعض. تعرف الوقت المناسب للانسحاب، والأهم، تعرف تعديل سرعة مرورها جماعيًّا. أي، تعرف النّمال الوقت المناسب للانسحاب، أو مجازيًّا، للصمت. قبل بزوغ هذه النظريات بسنين طويلة أخذ أرسطو وقتاً وفيراً في دراسة النمال. وكتب عنها في كتابه "تاريخ الحيوانات"، يقول إن المخلوقات الإجتماعية من عالم الحيوان تنصاع دومًا لحاكم واحد، كالنحل مثلاً. أما النمال، فتشكّل مثالاً عظيماً عن انعدام الحاكم الواحد، حيث كل نملة حاكمة بنفسها، وجموع الأحكام تلك، تشكّل السلوك العامّ. أي، هذه النمال، تشكّل ثورة على الحاكم، وعلى نظام الحكم بأكمله، وهي بطبيعتها غير مؤسّساتية، ولا تؤمن بالبيروقراطية. لا تدافع النّمال عن نفسها من المستعمر عبر حاكم واحد، بل تدافع عن المجموعة عبر إرسال فيرومونات لجميع النّمال. أي، كلُّ نملة جيش كامل. 

وتعرف النمال أيضًا حدود الطغيان، ومن أين يأتي الخطر، من الداخل أم من الخارج، وتبقى متمسّكة بالفكرة الأساس: مصلحة المجموعة فوق كل اعتبار.

أعود للحرب خارج الذاكرة. أعود للحرب المنغمسة في الحاضر، هل ستسقط وحوش العالم؟ لا أعرف، لكن بالتأكيد لن تسقط النّمال. نتعلّم من هذه المخلوقات كيف نقفز فوق طغيان الداخل وطغيان الخارج نحو الفكرة الأم، الفكرة الكونيّة ووضوحها في محاربة المُستعمِر. كلّ منا جيش بأكمله، وأمام كل وحش ينمو، نملةُ أخرى تحفر نفقًا جديدا.

____________________

1 ترجمة الكاتب لبيتٍ كتبه الشاعرالفرنسي بول فاليري:

De ce qui occupe le plus, c’est de quoi l’on parle le moins. Ce qui est toujours dans l’esprit, n’est presque jamais sur les lèvres

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button