يسافر الأمير الصغير1 إلى كواكب عدّة. وعندما يصل إلى الكوكب الرابع يتعرّف على رجل الأعمال الذي يسكن هذا الكوكب. يعتقد رجل الأعمال أنه يمتلك النجوم، ويفسّر للأمير الصغير مسترسلا: "بطبيعة الحال. فحين تعثر على ماسة لا يملكها أحد، فهي لك. وحين تعثر على جزيرة ليست لأحد فهي لك. وحين تكون أوّل من فكّر في فكرة، تقوم بتسجيل براءتها، وتصبح في ملكيتك. وأنا أملك النجوم لأن أحدا لم يسبقني في التفكير في امتلاكها".

تخالجني عناصرُ أربعة هنا. تخالجني، أي تخالطني، وأعني: تخالطني باضطراب. إنها أربعة عناصر: 

القيمة الماديّة، والمدينة، والتملّك، والرغبة.

مشهد 1: أمامي، فرسان أربعة، يسابقون الموج والصخر. إنه شهر آذار، والبرد قارس، والأطفال الأربعة يتسابقون، يخلع كل منهم ملابسه، لا برد يخترق جلودهم، وشمسُهم ناصعة. لا رغبة يتقاذفونها، بل رغبة عنيدة لا تتلكّأ، تلتهم الكلّ، يسبحون في أمعاء الغربة، يسبحون في أمعاء البحر. على كورنيش عين المريسة أراهم من فوق. هم المسرح، وأنا المشاهد، أراقب الرغبة أنا وأطفال آخرون. عن يميني، طفل يحدّق بالأطفال الأربعة. يلبس قفازات وقبعةَ صوفٍ، ويحدّق بالبحر، يحدّق بالبحر الذي يبتلع الأطفال، ويحدّق بالأطفال لأنهم يبتلعون البحر، ويحدّق بالبحر لأنه الرغبة التي لا يمتلكها أحد، الرغبة التي يمكن أن يكون هو جزءا منها. يحدّق بالرغبة الفالتة منه. أن تحدّق بالرغبة حين تنده لك، أن تحدّق بالرغبة المشاع  دون دخولها، أنْ لا تخون وعد أمّك التي ألبستك قبّعة الصوف، وقالت لك: "لا تنزعها"، وجاء البحر يناديك... ولم تستطع أن تقفز.

مشهد 2: أمامي صورة فوتوغرافية من الأرشيف.  ستة أشخاص يتقاذفون ماء البحر. كُتب على الوجه الخلفيّ للصورة، وباللغة الفرنسية: "على الشاطئ، حوالي العام 1925، في الكرنتينا". التُقطَت الصورة من البحر، أي وقف المصوّر في الماء حاملا كاميرته على مقربةٍ من الأشخاص الستّة. لا أحد ينظر إلى الكاميرا، الأشخاص الستّة مأخوذون باللحظة، المصوّر مأخوذ بتثبيت اللحظة، الكلّ مأخوذ بالبحر. حينها، كان البحر مُمكنا، وكانت الكرنتينا تعيش الرغبة وتؤرّخها، قبل وصول سياسات الإعمار، وقبل امتلاك البحر وردمه، وقبل منعه من السّكان. أن تعيش أمام البحر ولا تلمسه، أن يُمنع البحر منك، وأن يستحوذ أحدهم على رغبة الآخرين: أن تمنع البحر من إعادة إنتاج رغبته من جديد.

مشهد 3: أمامي صورة فوتوغرافية أخرى من الأرشيف. صورة خِلوٌ من الأشخاص، لكنّ احتمال الرغبة فيها هو احتمال وجود الأشخاص. فضاءات الرغبة هي أيضا فضاءات الاحتمالات والخيال. المكان عين المريسة. الزمان حوالي عام 1910. كانت الصخور تأكل الطرق، وكان الماء يأكل الصخور، وكان تبليط البحر فعلا جدّ مستحيل. نبتت على الصّخور صبّارات عالية، وبدأ الصخر يلتفّ حول نفسه حتّى كوّن خليجا صغيرا، بحرا صغيرا هو امتداد للبحر الكبير، ولكنْ يحاكي رغبة أخرى. البحر الكبير يحاكي رغبات صاخبة أمام الملأ كلّهم، ولكنْ، في هذه الصورة بالذات، تحاكي هذه البقعة الرغبات الساكنة. البحر الصغير كالمعضلة، الرغبة اللغز، التي ما إن تكتشفها حتى تتبدّل وتتغيّر لتعيد فرض اكتشافها مرة أخرى. في هذه البقعة بالذات، لا مكان لأن تُرى، شجر الصبّار العالي يحمي رغبتك الدفينة، ولكَ بحرُك. أنتَ تعلم أن البحر ليس لك، وأن أحدا آخر سوف يأتي ويمتلك هذه البقعة بالتحديد. أن تعلم أن البحر لك وللجميع أيضا، الرغبة التي لا تنحصر.

تخالجني عناصرُ أربعة هنا. تخالجني، أي تخالطني، وأعني: تخالطني باضطراب. أربعة عناصر: 

القيمة الماديّة، والمدينة، والتملّك، والرغبة.

أحتاج إلى أبحاث كثيرة كي أستنتج علاقة ما بين هذه العناصر، لن أحاول البتّة. ولكن، أول علاقة فطرية تفتتحُها أفكارٌ سريعة، وأحيانا قاطعة. أفكار كالتالي: تنعدم الرغبة بعد التملّك، وتبقى الرغبة ناصعة حين لا نحاول إمساكها بكفوفنا. ثمة من امتلك بحرًا. ثمة من اشترى بحرًا، وهذه فكرة كفيلة بأن تسحق كل الرغبات. أن تمتلك بحرًا يعني أن تختزل رغبات الجماعة في شخص واحد، يعني أن تمنع الرغبة من الآخرين، يعني أن تمحوَ ذاكرة الرغبة، وبالتالي احتمالها، من رؤوس الآخرين. أن تشتري البحر، يعني أن تشتري معه الملك العام، والرغبة المشاع، والرغبة المتاحة أمام الواحد والكلّ.

على آخر صفحة من كتاب الأمير الصغير، رسم الكاتب نجمة فوق أرض بعيدة، نجمةً هي ملك الجميع، أي ملكُ كلٍّ منا، و ملكُ لا أحد. كتب الكاتب على الصفحة الأخيرة: "هذا المنظر الطبيعي بالنسبة لي هو الأجمل والأكثر حزنا في العالم".

___________

1 رواية للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button