"لا أشباح في لوحات فان غوغ، لا رؤى، لا هلوسات. هذه حقيقة الشمس الحارقة عند الثانية بعد الظهر."
- أنطونان أرتو، "فان غوغ، الرجل الذي انتحره المجتمع".
كُثُر هم الفنانون الذي رفضوا الانصياع على مرّ التاريخ، فأتى الردّ من خلال الطب النفسي الذي جهد لتدميرهم. أفلام عديدة تنقل قصصًا عن العلاجات القسرية التي مرّ بها فنانون بعد أن تحدّوا في أعمالهم الفنيّة الأعراف الاجتماعية والثقافية. منهُم الممثلة فرانسيس فارمر، ومغنّية الجاز بيلي هوليداي، ومارلين مونرو، وفيفيان لي، وأنطونان أرتو، وإيزيدور إيسو، وفان غوغ. لطالما اعتُبر الفن في الكثير من المحطات التاريخية تهديدًا للتيار السائد وللهيمنة على المجتمع، فأُسيء استخدام الطب النفسي لكبح التمرد وإجبار الفنانين، كما العامة، على الامتثال للسلطة بكافة أشكالها. الفن، كمغامرة بشرية على تخوم المعقول واللامعقول، هو كشف لحقائق يحاول المجتمع طمسها من خلال الثقافة السائدة - حقائق ألغَت ولو في لحظة دهشة، فريضة الامتثال، فما كان على المجتمع، بواسطة الطب النفسي، إلّا أن يعمل على تدمير الفنانين، ضريبة لرفضهم فكرة الامتثال..
كتب أرتو كيف دمّر الطبّ النفسي فان غوغ، وكتب إيزيدور إيسو عن أرتو. هذا هو تأثير الفراشة، في دفاع الفنانين عن الفنانين ضد التدمير الشامل لكل ما هو جميل.
عُرِفَت فرانسيس فارمر كممثلة متمرّدة تحدّت معايير المجتمع بروحها الحرّة وإيمانها بإبداعها. استُخدِم الطب النفسي ضدّها للسيطرة عليها بالقوّة، فأودِعت عام 1943 في مصحّ عقلي حيث خضعت للعلاج بالصدمات الكهربائية والعقاقير. تحذّرنا فارمر: "لا تُعزّوا أنفسكم بالاعتقاد أن الرعب قد انتهى، فهو لا يزال قائمًا اليوم بمستويات الشرّ نفسها، كما كان الحال في حقبة (مستشفى) بيدلام المشينة. لكن يجب أن أربط الأهوال التي عشتها وأنا أسردها، على أمل أن تتحرك قوّة ما وتعمل في صالح الإنسانية لتنقذ، إلى الأبد، المخلوقات التعيسة التي لا تزال تقبع في زنازين خلفية داخل مؤسسات متعفّنة".
نفسه أنطونان أرتو، الكاتب والممثل الذي قلب من خلال كتاباته المسرح الأميركي وهياكل الفكر الغربي رأسًا على عقب، قضى تسع سنوات في مستشفى للأمراض النفسية، حسب ما قال عنه جاك دريدا. كتب أرتو عن فان غوغ الذي كسر الرتابة ورفض الانصياع للمؤسسات وصوّر الحقائق التي يقمعها المجتمع - أو الجحيم نفسه. عانى فان غوغ من الأمراض النفسية، لكنه أحدث ثورة في الإدراك من خلال لوحاته، كاشفًا عن طريقة بديلة للبحث عن الحقيقة وتصويرها. يُلقي أرتو اللوم على طبيب فان غوغ، بول-فرديناند غاشيه، معتبراً أن طريقة علاجه كانت السبب في انتحار فان غوغ عام 1890، حين لم يكن يتجاوز السابعة والثلاثين من العمر. يعرض أرتو نبوءته: "إنه اللمعان الرطب للمرج، لسنبلة القمح التي تنتظر اقتلاعها. وستحاسب الطبيعة على ذلك يومًا ما، كما سيحاسب المجتمع على وفاته غير المتوقعة."
من جهته، جهدَ الفنان الروماني إيزيدور إيسو، مؤسس حركة الـ"ليتريزم" (Lettrism) المتأثرة بالسريالية والدادائية بشكلٍ أكثر انخراطاً بالسياسة، لدراسة التاريخ النفسي لأنطونان أرتو في عمله "أنطونان أرتو تحت تعذيب الأطباء النفسيين". تعرّض إيسو نفسه للإيداع القسري في مستشفى الأمراض العقلية عام 1968، وكان يرى أن الطب النفسي يملك سوء فهم للفن، وأنه كان تالياً من الممكن علاج أرتو دون الحاجة إلى تسع سنوات من الاستشفاء القسري. بل يذهب إلى القول بأن حالة أرتو النفسية غذّت إبداعه، فنقل في أعماله المسرح إلى مكان مختلفٍ كان له تأثير واسع على الحركات الثقافية والفنية، لا سيما التيار السوريالي والمسرح الأناركي بعد أحداث مايو 1968. كسر أرتو جميع القواعد في حياته، فقُيّد في المستشفيات بالسترات المقيِّدة وصُعِق بالصدمات الكهربائية، وحرم من حريته، إذ كان الأطباء ينظرون إليه كتهديد. يهتف أرتو: "الصدمات الكهربائية، يا سيد لاتروموليير (طبيب نفسي متدرّب)، تصيبني باليأس، تسلبني ذاكرتي، تخدر تفكيري وقلبي، تجعلني غائبًا يدرك غيابه، ويرى نفسه طوال أسابيع يطارد كيانه، مثل ميت بجوار حي لم يعد هو، يطالب بوجوده لكنه لا يستطيع ولوجه." يتابع إيسو من بعده: "الدكتور غاستون فيريديير (طبيب أرتو) هو أحد أعظم المجرمين في تاريخ الإنسانية: أيخمان جديد."
كما في ظاهرة تأثير الفراشة، تحدّث فنّانون عن فنّانين آخرين دُمّروا على يد الأطباء النفسيين. كانت تلك طريقتهم لكشف الحقيقة، ودفعهم ذلك لإظهار مزيدٍ من التحدي في أعمالهم الفنيّة رغم الخطر المحدق بهم، في إدانة لإساءة استخدام الطب النفسي كسلاح قمعي ومدمّر، غايته السيطرة عليهم. يبدو أن ما نتج عن تغريب الفنانين وتصنيفهم كـ "آخرين" كان مزيداً من الصلابة والتمرّد، فكشفوا عن قّوة كامنة في نفوسهم عبّروا عنها في أعمالهم اللاحقة - أعمال أكثر ثورية وقدرة على كشف الحقيقة.