في 1974، قدّم الناقد الأدبي بيتر بورغر نظرية تقول بأن الفئة المهيمنة في المجتمع تحتضن الأعمال الفنية النقدية بهدف استمالة أو احتواء الفنانين والفن الطليعي، لأن "الفنّ كمؤسسة يجرّد العمل الفنّي الفردي من محتواه السياسي." وهكذا، تنجح الفئة المهيمنة في امتصاص حالة الاعتراض وتمنع احتمال تحوّلها إلى أو تأطيرها في مشروع جذري. ظهرت هذه النظرية بالتزامن مع نشوء ثقافة فرعية جديدة بين الشباب في بريطانيا، هي ثقافة البانك الفرعية (Punk subculture). وقبل بورغر بنحو 40 عاماً، أي في 1935، لاحظ الفيلسوف الألماني والتر بنجامين أن الإنتاج الميكانيكي للأعمال الفنية من شأنه أن يحدّ من وهج (أو فرادة) العمل الفنّي. كما أن انتشار عمل فنّي ما نتيجة التقدم الصناعي يحصل غالباً بدفعٍ من الفئة المسيطرة على وسائل الإنتاج. وتحويل العمل الفني النابع من ثقافة فرعية شبابية إلى سلعة تجارية غالباً ما يحصل بقوّة السّلب، من دون إذنٍ من أحد. وقد تكون ثقافة البانك الفرعية - بتعبيرها عن تمرد الشباب من خلال أساليب الملابس والزينة - المثال الأكثر وضوحاً وتجسيداً لعبارة "كل طليعة تتحوّل إلى سلعة". 

تتشكّل روح البانك إنطلاقاً من مجموعة مواقف وممارسات من بينها رفض المعايير الاجتماعية السائدة والاستبداد ومعاداة الشركات، والاتكال على النفس أو ممارسات "اصنعها بنفسك" (Do-It-Yourself)، ومعاداة النزعة الاستهلاكية والجشع التجاري، وممارسة الفعل المباشر، وعدم الرضوخ والتنازل عن هذه المبادئ، وإلاّ حمل وصمة a sell out، أي "خائن" أو "من باع نفسه".

لم تنحصر روح البانك في بقعة جغرافية وفترة زمنية محددة، بل ألهمت هذه المواقف والممارسات ثقافات فرعية وأنواع فنيّة أخرى مثل نوع "السايبربانك" في أدب الخيال العلمي وفنونه، حيث توضع مبادئ البانك في سياق مستقبلي ديستوبي تحت شعار "تكنولوجيا فائقة، حياة وضيعة" (High tech, low life). وفي حالة الستيم بانك (Steampunk)، توضع في سياق زمني سالف، وتحديداً في الحقبة الفيكتورية (نسبة إلى عهد الملكة فيكتوريا 1837 - 1901). وفي الاستخدام الحديث للكلمة، أمست عبارة "بانك" أقرب إلى الشتيمة: أن تكون غير ذي قيمة، أن تتسبّب بالمشاكل. إذاً، كيف صنعت ثقافة البانك أزياءها ورموزها ومعانيها؟ وأيضاً، كيف سُلبَ كلّ ذلك منها؟

أعيد تعريف البانك ونقله من سياقه الأصلي كـ "ثقافة فرعية" (Punk subculture) إلى مجرّد أسلوب أو "ستايل" (Punk style). فقد حُكِم عليه بالذوبان في الثقافة السائدة (Mainstream culture) والأزياء والعناصر البصرية. إلا أن "ستايل البنك" نشأ في سياق "ثقافة البانك الفرعية" وتجلّى في ممارسات مختلفة (الملابس وأسلوب الحياة واحتلال المساحات والمساكن والموسيقى والرقص...). فلا يمكن اختزال ثقافة البانك الفرعية بـ"ستايل" أو أسلوب واحد. والسبب هو أن البانك شهد مسارات وممارسات وأساليب متنوعة فرضها تنوّع المدن والمناطق التي انتشر فيها. ولذلك، ليس هنالك ثقافة فرعية مركزيّة واحدة ليتمّ التعامل معها على هذا النحو.

أحد الجوانب الإنتاجية في ثقافة البانك الفرعية هو استخدام الأغراض الاعتيادية التي نستخدمها في حياتنا اليومية، حتى تلك التي يُنتجها التيار السائد. إذًا، هي عملية إعادة تموضع واعية وتمرّد يستهدف التيار السائد، حيث يتم استعارة تلك الأغراض والتدخل في شكلها ووظيفتها ومن ثم الاستيلاء عليها تمامًا. فتصبح جزءًا من معجم البانك باكتسابها معانٍ ودلالات جديدة. ومن بتبديل معناها في المعجم، تصبح هذه الأغراض في حدّ ذاتها رموزًا للمقاومة. وذلك فضلًا عن أنه يتم الحفاظ على السياق الأوّل الذي امتلكَهُ الغرض قبل الاستحواذ عليه نظرًا إلى أهميته في عملية الدلالة والإتصال. فالمعنى الجديد يعتمد على الدلالة الأوليّة التي يتم إعادة توجيهها من خلال البانك.

يمارس التيار السائد أو ماينستريم عملية مماثلة بهدف نقل "أسلوب" البانك من مساحات "الثقافة الفرعية" إلى منصّة عرض "الموضة". وتمتص الموضة "أسلوب البانك" وتغيّر سياقه. فهل يجنح أسلوب البانك نحو التدمير الذاتي (Self-destructive)؟ وهل هو في أساسه أسلوب يعبَّر عنه بالواسطة، أي مثلاً من خلال التيار السائد؟ وعليه، هل يمكننا أن نستنتج أن أسلوب البانك، وعلى حساب هويّته، دعم الموضة والتيار السائد من خلال ذوبانه في النظام المهيمن؟

بناءُ هوية محدّدة للـ"بانك" يعتمد جزئياً على التيار السائد. وكما هي الحال في استخدام الأشياء أو الأغراض، فبناءُ هويّة البانك يعوّل على اعتماد التمرّد والأناركية كوظائف تتبع للثقافة السائدة. وفي الواقع، يلعب "الأسلوب" دورًا رئيسًا في عملية الانتماء إلى الجماعة، وهذا ما تثبته التيارات الموسيقية1. إذاً، الهوية والأسلوب عنصران مترابطان. وعليه، فإن تشكيل أسلوب معيّن يحتاج إلى التيار السائد لكي يُنظَر إليه على أنه "أناركي" أو متمرّد.

نظام الموضة، كجزء من الهيمنة، كأسلوب متّفق عليه، يمتص أسلوب البانك. والموضة تحصُر صورة البانك ضمن إطار المعايير المتوافَق عليها في المجتمع، وتقضي على معانيها الأصلية، المرتبطة بالأناركية والتمرد وما إلى ذلك، من خلال دمجها بالتيّار السائد، في غياب الدلالات والمعاني الثقافية الأصلية. وما يتبقى هو أسلوب خالٍ من دلالاته الأصلية. وتهدف الموضة إلى تحييد الأسلوب عن الثقافة وإبطال مفعوله وفرض سلطتها عليه. وتتشكّل هذه السلطة الرمزية عن طريق محو الذاكرة الكامنة في الأسلوب وإعادة كتابتها. وبتغيير السّياق، يغيّر أسلوب الكتابة مؤلّفَه. فهل هذا ما قصد به رولان بارت بـ "موت الكاتب"، أم أنه في الحقيقة موت الجمهور؟

كان أسلوب البانك عبارة عن "كود" أو لغة، أو اصطلاح داخل الجماعة2. أمّا نظام الموضة، ومن خلال تغيير السياق، فيقضي على قيمة هذا الكود كمنتج ثقافي محدّد. ويصبح الكود أو الدّال الأصلي مقيّداً، إذ أن معناه الأساسي مرتبط بالواقع الثقافي الكامن خارج إطار منتج الموضة. ولذلك، يصعب على مستهلكي الموضة، أي الذين يشترون من المولات ملبوسات تحمل أسلوب البانك، تفسير هذه الأزياء، لكونها نسخة نُقلت إليهم بالواسطة، أي من خلال شركات الملبوسات. وعليه، لا تكتسب هذه الملبوسات شرعيتها من الجماعة، بل من خلال نظام الموضة.

إن تمثيل "أسلوب البانك" هو فعلٌ اختزالي يعّبر عن قوّة رمزية. وبالنسبة إلى رولان بارت، يشترط النظام الأيديولوجي "تماثلاً" مع "الآخر".3 ومن خلال دمج "الآخر" في لغتها أو بالأحرى رطانتها، تُثبت الموضة قدرتها على تمّلك "الآخر". ويتم نقل "الأسلوب" رمزياً من الثقافة الفرعية إلى الثقافة السائدة. والقدرة على التحويل ترمز إلى القوّة والاسترسال في التعامل بفيتيشية مع أسلوب البانك إلى ما لا نهاية. وهكذا، تتعايش مستويات مختلفة لتعريف "أسلوب البانك": الموضة، والثقافة الفرعية، وغيرها من عناصر تسير ضمن مستويات مختلفة، ويؤثر بعضها على بعض. وهذا الصراع الذي يخوضه المؤلفون على سلطة الأسلوب لا يعيد تعريف هوياتهم فحسب، بل يؤكدها أيضاً.

____________________

1 “Culture, Subculture and Music” in Effects, Audience and Subculture.

2 Ibid.

3 Subculture: The Meaning of Style.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button