"أليس صحيحًا أنك تبدأ حياتك طفلاً لطيفًا يؤمن بكل شيء تعلّمته تحت سقف منزل والدك؟ ثم يأتي اليوم الذي تعرِفُ فيه أنك معذّب وبائس وفقير وأعمى وعارٍ، وبهيئة الشّبح الفظيعة والحزينة تعبر الحياة مرتجفًا." - جان كيرواك، على الطريق

يستكشف هيرمان هيسه في "دميان"، وهي الرواية الأولى في ثلاثية "دميان" (1919)، "سيدهارتا" (1922) و"ستيبنوولف" (1927)، مراحل البحث عن الذات في مرحلتي الصبا والبلوغ من خلال الغوص في حياة شخصيات لامنتمية، وتحديداً حياة إميل سنكلير. كغيره من أبناء الطبقة الوسطى، يعيش إميل براءة الطفولة في كنف العائلة، ولكنه على عكس الأطفال الآخرين، يمرّ بمراحل العذاب والبحث وصولاً إلى التناغم السليم. والد ووالدة سنكلير هما رمزا الأمان الذي يلجأ إليهما سنكلير أولاً كأي طفل، لكن أسئلته جعلته يرفض حياة الرتابة والطمأنينة فيتمرّد عليهما في نهاية المطاف. في الرواية، يقابل صديقه القديم "دميان" الذي يلعب دور المرشد في رحلة البحث عن الذات والقدر. 

في فترة غياب دميان، يتعرّف إميل سنكلير على بيستوريوس في كنيسة صغيرة "عن طريق الصّدفة". وبيستوريوس هو رجل متديّن يعزف على آلة الأرغن موسيقى باخ وريغر وبوكستيهودي وألحان لمؤلفين إيطاليين قدامى. في هذه المرحلة، يلعب بيستوريوس دور المرشد مستبدلاً دميان. وبينما كانت الأسئلة تعصف في ذهنه، وجد إميل بعض العزاء في موسيقى بيستوريوس. تتكرّر استخدامات الموسيقى في أعمال هيسه. في رواية "لعبة الخرزة الزجاجية" (The glass bead game)، يفشي "جوزيف نكت"، الشخصية الرئيسية في الرواية، سّره: "الكون كله يوجَّه وينظَم ويفسّر بروح الموسيقى".

هكذا أيضاً يبوح إميل: "أحب أن أستمع إلى الموسيقى، ولكن فقط ذلك النوع الذي تعزفه أنت، الموسيقى غير المتحفّظة بأي شكل من الأشكال، ذلك النوع الذي يجعلك تشعر بأن رجلاً ما يهزّ أرجاء الفردوس والجحيم. أعتقد أنني أحب هذا النوع من الموسيقى لأنها غير أخلاقية. كل شيء آخر أخلاقي لدرجة أنني أبحث عن اللاأخلاقي. بدت لي الأخلاق دائمًا لا تطاق". حلّت الموسيقى على إميل بـ"التزامن" (synchronicity)، حسب تعريف كارل يونغ للمصطلح، كانعكاس وتعبير عن الروح المتناغمة مع الوجود.

لا يؤمن إميل سنكلير بالصُدفة، فهو يعتبر أن سعيه الداخلي كان في تناغم مع الكون وما يتلقّاه منه. شعر بروح الرجل المتديّن تعزف الموسيقى وتعكس إيمانًا متعاليًا، مطلقًا، يتخطّى ويصالح الظلام والنور. ولمّا واجه بيستوريوس، سأله عن الله أبراكساس الذي يشمل الله والشيطان في آن معاً. يحاول بيستوريوس توجيهه: "نرسم دائمًا حدود شخصيتنا بشكل ضيّق للغاية. بشكل عام، نحدّد كجزء من شخصيتنا فقط ما يمكننا التعرّف عليه كَسِمة فردية أو متباينة عن السائد. لكننا في الحقيقة نتشكّل من كل شيء يتكوّن منه العالم، كل واحد منّا... نحمل كل شيء في روحنا التي كانت حيّة في أرواح البشر".

يعكس هذا الجواب مفهوم كارل يونغ عن النموذج الأصلي (Archetype) واللاوعي الجماعي (Collective unconsciousness)، إذ كان لكارل يونغ تأثير كبير على هيسه يوازي تأثير الفلسفات الشرقية على الكاتب الألماني-السويسري. اللامنتمي يقف على حافة العالم، ومع ذلك يتمتع بجميع شروط تطوّر الحياة، جوهريًا، ويتناغم مع العالم الخارجي ونظامه. يعبُر إميل النور والظلام للوصول إلى هذه الحالة من الوعي بعد أن كانت الموسيقى أول رابط له مع بيستوريوس الذي قاده إلى هذا الإدراك والوعي بالوجود. لاحقاً، يشارك الاثنان أحلامهما في انعكاس آخر للتأثير القوي لكارل يونغ في هيسه.

وعلى الرغم من كونه فنانًا، إلا أنّ بيستوريوس لا يؤمن بطرح "الفن من أجل الفن"، بل يتعامل مع موسيقاه على أنها تعبير ديني. بعد الدين، كل شيء مسألة ثانوية1. فبيستوريوس يحمل أسُساً دينية أكثر من دميان. ومن خلال التعرّف على بيستوريوس، يتعلّم إميل كيفية الإستماع إلى صوته الداخلي، ذلك الصوت الذي يُذكّره بدميان، فدميان المُرشِد هو الشيطان الداخلي الذي يسكن فينا. يشعر إميل أن أفكار بيستوريوس في وئام مع ما يردّده دميان، على الرغم من أن الإثنين لا يعرفان بعضهما، كلاهما يهدف إلى التوفيق بين الخير والشر بالاتحاد وتتبّع القدر والأحلام.

يشرح بيستوريوس بصوت هادئ: "الأشياء التي نراها هي الأشياء نفسها الموجودة بداخلنا. الواقع الوحيد هو ذلك الموجود بداخلنا. ولذلك يعيش الكثير من الناس حياة غير واقعية. يتبنّون الصور الخارجية كواقع ولا يسمحون للعالم الكامن في داخلهم بالتعبير عن نفسه. يمكنك أن تكون سعيداً بهذه الطريقة. ولكن بمجرد أن تتعرّف على التفسير الآخر، لن تملك خيار اللّحاق بالحشود. يا سنكلير، طريق الغالبية سهل، وطريقنا صعب". هكذا يرشد بيستوريوس إميل نحو هذا التصوّر للواقع ورفض الاستسلام للواقع الخارجي فقط. الوجود منظّم ومليء بالنقاء ومتناغم في النور، أي النور الذي يردّده بيستوريوس كانعكاس لدميان. يعكس هؤلاء اللامنتمين بعضهم البعض تأكيداً على المفهوم اليونغي للنموذج الأصلي. اللامنتمي يقف على الحافة، على وشك أن يصبح هو نفسه نموذجًا أصليًا يوفّق بين الإلهي والشيطاني.

____________________

1 Hesse’s Demian as a Christian Morality
Play https://hesse.projects.gss.ucsb.edu/papers/demian-roney.pdf

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button