… ولذلك عندما تنظر إلى لوح مفاتيح الحروف تحت يديك ولا تعرف من أين يبدأ اغتيال اﻷصابع، ولا بأي حرف محظوظ سيكون له الشرف أن يُدقّ ليُقتل فتكتبه أنت كمن يقترف جريمة، ومن ثمّ تلوذ بالهرب والفرار من وحدة الحرف وإخفاقة الكلمة وهيجان الجملة الساقطة في وقيعة الدقّ ... وتدقّ تدقّ اﻷعصابَ على مفاتيح حروف لا تتنبّأ إلا بكلمات حروب على أشكالها تقع في عقم الشاشة، تستجمع قواها وترمقك بالشفقة على حالك وحالتك، تعبر منك إليك دون أن تضرب لك حسابًا، وهو أنّك...

…ولذلك، ستفلت برأسك من بين يديك المفعمتين بالتوتّر والقلق، ستصفن طويلا في تاريخ البلد وستفكّر كيف تحتمي من نفسك وتتموّه بالورق الهاجم عليك من الشجر، ورق يأتيك بأرق اليقظة مع بومة العاصفة السطلاء والنسر التائه المبحلق بالحبر كالطريدة، مخلوقات عجيبة غريبة، تنتقم منك بألفاظ لسانك الملطوع من التفرقة والتغربة، إلى أن تعود البداية إليك رغم أنفك المحشور في نفس النهاية السالكة... 

فتبدأ بكلمة ميسّرة سالكة تكتبها على الورق، تحشرها بين النقاط والتعب :  … ! ؟ … سَالِكَة … ؟ ! … 

ثمّ تنتظر كي... 

كي تبدأ كي تعبر كي تنفذ كي تخرج
كي تفصل كي تصبر كي تزرع كي تحصد
كي تفرح كي تبكي كي تلعب
كي تخرج من بيتك 

كي تعمل كي تحلم
كي تحيا كي تكبر كي تُوجد 

كي تسلك طريق العودة إلى بيتك 

كي تبدأ كما مع بداية هذه الجملة التي اختفت

التي سلكت طريقها لوحدها من دونك
التي انتشرت بنشر غسيلك على سطوح اللغة المستفردة بك في هذه الوحدة المتكلّمة عن كل شيء
السالكة بفضح كل شيء لاستثنائك من نَفَسِها مع أنّك أنت هو الذي من أوْجَدَها كي

كي يعود الجميع بخير

كي نخفف من وطأة هذه الوحدة المجرمة 

كي تبقى الطريق سالكة 

بالحب وبالمحبّة سالكة
سالكة... 

سالكة تنطق بك ولا تنجّيك من أي تجربة وتجريب، فهي تعلم أنّها قاتولية بحقّك وأنت تعلم أنّها بحاجة إليك لتتمّ المقتلة:
ليُلفظ الحبر على الورق هباء
ليُقذف الورق المجعلك في سلّة مهملات وحيدة تقف بجنبك
وعلى خاطرك تنوح
تنكة مزبلة للعذوبة الرقيقة العميقة
تنعي فيها رأسك بلحظة مع كل تاريخك المستشهد بهرائك
تمتلئ بنفاقك فيها لتنفلق وتطوف مع مسودّات تلفيقاتك المبشّرة بالفرح اﻵتي حتمًا كي...
كي يخفق له قلبك 

كي تحنّ دون أن تحزن عليها

كي تدفنها برأسك وأنت تبتسم
ابتسم يا حبيبي فهي سالكة

سالكة يا حبيبي سالكة... 

قُم انقلع من واجبات الخرطشة والتسويد، فلقد تمّ ما انطمّ، هلمّ اﻵن يا رجل وبيّضها، هلمّ على فروض نور الشاشة، هيّا اﻵن وبسرعة طالما هي سالكة، فالحروف يئست من انتظار الكلمات تجرّ أخواتها على المحاور وتدور على الجبهات المتحرّكة لتضيع وتختفي بين أدوات الوصل والقطع والفصل... طال انتظار اللغة بين اﻷقلام واﻷوراق والشاشات المتناحرة، طال المكوث هنا بين مسودات عن خرائط وتلقيم لرشّاشات وترضيع تحت الرصاص الطائش، طالت مواصيل الطفولة التي كانت فيما مضى لربّما سالكة...
سالكة بتحريف الرغبة تجامع العيون لتولّد جملاً مُغتصبة تجهض نصّك اﻵن، نعم، كانت هي هكذا، سالكة لاعبة ملعوبة وملعوب بأسفلها من العالي إلى الواطي، سالكة هي كانت، فهيّا بك اﻵن، قُم واقفز من النافذة، قُم... لا، لا، بشرفك تمهّل، تنفّس، لا أنت ولا أحد غيرك باستطاعته أن يلجمها، الطفولة سالكة، على رقبتك سالكة، وحتّى بالنصّ المُجهَض اﻵن هي حيّة وسالكة... 
حيا الحكاية، حيا الموت من بدء الحكاية تبدأ به ليبدأ الماضي، كان يا ما كان، فالتًا هو كما الحاضر اﻵن، كما أنت تكتبه بالمفرّق اﻵن، كما في الحكاية، بالجملة بالمفرّق، جملة بجملة وأمام عينيك يا من تقرأ، يا من بعينيك كانت اللغة فصارت هي الآن، سالكة، وكان يا ما كان، العين باللغة واللغة بالسنّ، سالكة... عابرة على الفاعل كما كانت هي وما زال هو بفعلته فاعلا بمفعول به وعلى الدّوام سالكة... 
سالكة ثم فجأة قف!
حاجز لقوى اﻷمر الواقع:

- مكانك قف! ترجّل. انبطح. إبحش جورة. 

- بأمرك سيدنا. تمّ. 

- أهلا وسهلا تفضّل! 

- ما لك ولهذه المصلحة من البداية يا رجل؟ ما الذي حلّ بك يا إنسان؟
ربّما كان لا بدّ للكلمة التي تُعْقر على الدوام أن تخرج من مرآة الذاكرة ككلمة واحدة لفصل اﻷصل عن النسل والهجوم على امرأة تحبّك بغضب كي تقضي على الغضب، وهنا، أجل، ربّما قد تبدأ بسلام يا رجل، من أوّل وجديد ولو غير سالكة، لكن نعم، ولما لا؟ أجل.
نعم. اللغّة السّلسة السّهلة الواضحة والمفهومة؟ لا، لم، ولن، ربّما لكن، بلغة سالكة... 

لغة مسالمة تسرح فيها الكلمات وتمرح وتتقاطع، لا إشارات محددة لتنظيم التدفق أو لمعرفة وجهة السّير 

لغة سالكة مفتوحة كمقبرة جماعية لمجازر منسيّة 

لغة كخيمة بحجم الوطن
لغة لذاكرة الموجودين المنتظرين المغيبين
لغة حيّة في وسط المدينة المنفجرة المفقودة الميتة 

لغة سالكة بكل الاتجاهات وبعكسها
كما كلّ يوم على شاشة الخرف
كما كلّ حرف في جريدة الّترف 

لغة مفتوحة على كل احتمالات الموت في البريّة إلا كالعيش في هكذا صندوق للفرجة 

لغة سالكة لعملية انتحاريّة في سوق العرض والطلب على دولرة اللبننة ولبننة الدولرة 

لغة سالكة لسكتة دماغية واصلة مجانا للعصب بسعر كلفة المنطق المكهرب 

لغة سالكة مفتوحة البطن المُتخم يسرح منه دود الصمت
لغة سالكة تنخر الكلام ليطول السكوت عن الحق المُعدم 

لغة سالكة غير مسلوكة إلا بالهدر اللفظي والتشظي المعجمي الممعجِن لأسنان الذهب مع الصاعق والفتيلة

لغة كالفضيلة اللماعة النظيفة المعلوكة المستفرغة غير المهضومة 

لغة سالكة مائعة مشوشطة اللمس والذوق والشمّ والرؤية والسمع
لغة سالكة لكلّ حواس اﻷجساد الغائبة والمغيّبة التي لم تعد بعد مع أجسادها كي نحسّ بها ونتحسّسها 

لغة سالكة كالخراب بعد انفجار وقع بالخطأ المتعمّد المقصود المدروس الممنهج والمتصوّر والمطبّق عن سابق تصّورات وتصاميم  

لغة سالكة فاتحة مسهّلة للخرق شرقا وغربا، تدور في العدم من الداخل وعينها على وسع قلب العدم من الخارج 

لغة سالكة مفروشة بموبيليا فضائية متشظيّة متطايرة: 

احجزوا لنا مرحاضًا على طاولة السفراء ولا لزوم للسيفون، سالكة…

سالكة بالأمعاء والمجاري والمسالك المتفلّتة من اﻷجساد التي  بدّلت سلوكيّاتها من التبويل والتغوط بالمنطق إلى التربيط والعنقدة على خوانيق رؤوس صانعيه لشنقها والتغزّل بالغيم الهاطل بالدماء من بعدها، سالكة... 

وكما من قبلها، وإلى ما بعدها، سالكة، نعم سالكة 

دومًا سالكة... 
من الحمام المقطوعة مياهه إلى شبكة الصرف الصحي برًا وجوًا، حتمًا سالكة 

حوّلوا وحطّوا الرّحال
هيّا بنا نتجوّل في الشبكة مستكشفين ماضي اﻷيام اﻵتية من حواشينا التي أبت على فراقنا 

سالكة سالكة... 

فلنكمل طريقنا ولو في شبه أنفاق متفطّقة
ولو على ضوء الشموع وتراتيل السلام والمحبة 

نسير على خطاها السالكة: 
باتجاه البحر سالكة 

نتقدم حاملين النرابيش والنوافيخ
نعبر خلسة كالضحايا وبوقار واحترام فداء لموضة الشراويل والطرابيش هي السالكة
سالكة وها قد طلّ اﻷفق المشوشط من حماوة الحديد 

ها قد لاح اﻷزرق الواسع الكبير
سالكة سالكة…

هيا بنا نمدّ النرابيش ونصوّب المنافيخَ، سالكة... 

إلا أنّنا، لجهلنا بأصول المهنة، وعوض أن نضخّ لنشفط صوب الحمّام، ضغطنا ونفخنا بالاتجاه المعاكس!
إلهي إلهي! تبًا سيفوروس ! تبًا بطليموس!
وكان أن ابتعد البحر عن الشاطئ وغار الافق في الوهم وطارت المدينة فعدنا أدراجنا ممتعضين إلى جنائز اﻷحياء نهتف: سالكة سالكة... 

وصلنا من حيث أتينا، بخشنا سطح الحمام وجلسنا على المرحاض وصلّينا للطوفان وحلمنا بنوح وبنيه وبأزواج الحيوان، اختنقنا أجل، لكنّها سالكة، سالكة… هكذا كان ما كان، ثم انتظرنا الفرج... 

تبّا! لا البواخر أتت لتخطفنا ونرتاح ولا آخر الطائرات المدنية المنتظرة نفعتنا! غيّرت رأيها في هويّتها وأضحت حربيّة في منتصف الطريق السالكة… أكملت مشوارها صوبنا وقصفتنا مرّة بالصّح و مرّة بالخطأ، تبّا! لم يبق أحد ليخبر، سالكة سالكة...  
...على حدّ السواء سالكة ومستوية بأندر وأوفر الموتات بشاعة وبأحلى مجازر التعاسة سالكة

حتّى ولو لم يبق لنا أي شيء غير قلي البيض على الحيطان الحامية وتنتيف الديوك ورميها في جبّالة ورشة إعادة إعمار العاصمة لنسفها ولهدمها من جديد، وهكذا دواليك، لكن سالكة…

بين الدواليب المشتعلة سالكة 

سالكة كمعموديّة نار دائمة 

سالكة كمئويّة الرحلة المنسوفة 

سالكة في الجور وعلى المطبّات 

سالكة في العنابر القديمة والجديدة 

سالكة على المنابر وفي الحناجر سالكة

سالكة على شرش الحياء وحتى لو طقّ وتطقطق 

سالكة سالكة... 
- حائطي يا حائطي، قل لي من اﻷجمل؟ 

- دقّت ساعة رأسك يا حبّ !

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button