صفحة بيضاء متوهجة أمامي، صغيرة كقصاصة ورق، أحاول أن أدلق عليها أفكاري المتزاحمة حول التعاطف مع الآخرين، تلك المقدرة على أن تدرك بدقة ما يشعرون به.

والتعاطف سمة بشرية فطرية وأيضاً مهارة تُكتسب، كما يقول أهل العلم والمعرفة. ومنه يولد التضامن الضروري لنصرة قضايا الآخرين أو جماعات أو أفراد سواك، في حين ثمة من يقول إن الشعور بالسعادة يتحقق حين يعيش المرء لامبالياً بما يجري من حوله. 

مفارقة كبيرة بين شعور التعاطف الذي يتطلّب منا مجهودًا وسعيًا لنكون ما لسنا عليه، وشعور السعادة المستحيل. مفارقة لم تكن تعني لنا شيئًا ونحن تلاميذ يافعين. استطعنا تجاوزها في مواضيع الإنشاء حول الفقراء والشحّادين.

نكتب مقدّمة الموضوع ومتنه بما يحمل من تفاصيل ذلك الفقير القاعد على الرصيف ثم تأتي النهاية لتُلخّص تعاطفنا وتضامننا معه من خلال إعطائه النقود والطعام، فنكتب في الختام "... وعدنا إلى البيت مسرورين". جملة شهيرة تجمع ذينك الشعورين بسذاجة، نكتبها من دون أن نعيها أو نعنيها فعلاً، لكنها تظلّ تعود مع ذكريات الطفولة كلما كبرنا، لتذكّرنا باستعصاء حل هذه المفارقة.

كانت الشاشة المضيئة تقع ضمن حقل بصري. وبسبب صغر حجم الجهاز، كنت أرى أيضاً المارّة على رصيف مضاء قبالتي.

حقل بصري كان مزدحمًا: أتطلّع بعيني اليمنى الى الشارع وباليسرى إلى الشاشة، بينما أصابعي تكتب وعقلي يركّز على مضمون النص، فيما ذهني شارد مع عبور سكان المشهد المتغيّر أمامي.

ورحت أنقل تفاصيله مثلما أراها: في بيروت، يسير الناس على أرجلهم كما يسير باقي البشر. أقدامهم، حافيةً كانت أم منتعلة، تخطو خطوًا على الأرض. بعضهم يجرجرها من شدة التعب أو من تعتعة السَكَر.

كنت أكتب هذا النص جالسًا في زقاق بيروتي ناسه ندامى كؤوسهم وتلفوناتهم. يتسامرون بالأمور الكبرى والصغرى وقد شطفوا همومهم بالسوائل التي يحتسونها. والتعاطف والتضامن الذي أفتش عنهما يكونان، في تلك البقعة، رهنًا بما بقي من وعيٍ لديهم لم يتبخّر بعد، أما الوعي المتبخّر فيوهمهم ببرهة من السعادة قبل أن ينطفئوا.

تلاحظ عيني اليمنى أن سيقان العابرين على الرصيف وما يعلوها من أطراف الجسد وأعضائه تختلف عن تلك التي لدى باقي البشر. منهم من تحوّلت ساقه اليمنى جرةَ غاز فرغت لكثرة ما طبخ الحصى وأكل. وهؤلاء يستعينون بثقل الجرة لتثبيت وجودهم على الأرض.

أفخاذ نحيلة تتدلى منها جيوب بيضاء، تعلّقت بحوافها السفلى قطع نقدية أبت أن تنصرف لئلا يدّقع أصحابها فقرًا وذلاً. أفخاذ غليظة منها بسبب البدانة ومنها بسبب اكتناز جيوب أصحابها بالأموال.

الصدور والبطون مساحات لرفع الشعارات والتنقّل بها بلا طائل.

أما الظهور فتعلوها عمومًا ألواحٌ للطاقة الشمسية. ولذا، تظل تنحني للشمس لشحن الحيوية ثم تستقيم لتفريغها. الأيادي مُسدلة تحمل قوت اليوم او، مطوية لرفع الشاشات أمام العيون، رغم خطورة السير بلا نظر.

أما الرؤوس فمخابئ للنوايا والأحلام… والهموم الثقيلة التي لا تلبث أن تتسرّب إلى قسمات الوجوه فتقطّبها، على عكس الفرح العابر الذي يفردها للحظات.

أعتم الشارع فجأة وانمحى العابرون فانتقلت عيني اليمنى لتحدّق مع اختها اليسرى إلى ما يُكتب هنا. 

"ما هكذا رأيت. فما معنى هذا النص؟" سألت اليمنى. فردّت اليسرى "لا أعرف. تابعتُ الكلمات وتعجّبتُ. خلتُكِ أصِبتِ فجأة بداء السوريالية." السبّابة لم تُجب لأنها منشغلة بكتابة الكلمات كما تُملى عليها.

سألت العينان الدماغ فوجدتاه مرهقًا تشوّشه حقيقتان دامغتان، حقيقة ما يُرى وحقيقة ما لا يُرى، وعاجزًا عن الرد.

"سجّلتُ المشاعر والأحاسيس التي كانت تعتري صاحبنا وهو يشاهد، ونقلتُها إلى الدماغ،" خاطب القلب العين اليمنى، "سجلتُها مثلما تواترت إليّ وأنتِ تستطلعين المارّة، وكان إيقاع خفقاني يتأثر بها."

تنحنح القلب وقال "أراد صاحبنا أن يشعر بما يشعر به المارة علّه يستطيع أن يضع نفسه مكانهم. فتلوثت الصور التي جاءتني من العين بالمشاعر التي بثّها إليّ القلب، وكانت هذه قوية. قوتها تأتي من أن حقيقة هؤلاء الناس ليست حقيقتهم الظاهرة. ولم يعد البصر وحده يكفي لاقتفائها."

"فحدث هذا التشوّه، إن جاز اعتباره فعلاً تشوهًا. لكنّي أحسبه حقيقةً بكل معاييري المنطقية كدماغ. ولعلّني كنت أغفل عن أن حقيقة البشر تكمن في تشوّهاتهم التي منها يثور التعاطف ومنها أيضًا يفور التجبّر."

إثارة التعاطف ليست حكرًا على حاسة البصر وحدها. حواس الشم والسمع واللمس والذوق كفيلة أيضًا بإثارته… إذا لقّح القلب سيل مدخلاتها إلى الدماغ بموجات الأحاسيس التي تنتابه مما تحصده الحواس.

وتحصل الحالات نفسها عندما يعقد الدماغ والقلب لقاءات مع الذاكرة، كأن هذه الأخيرة تبحث عن متنفّس يريحها من ضغوط محفوظاتها.

الصور التي تبثّها الذاكرة عن الأهوال التي حصلت في بقاع كثيرة من التاريخ والجغرافيا، هي لضحايا مشوّهين. تشوهاتهم حقيقة دامغة لم تشكّلها صيغة يركّبها الدماغ مع القلب… شكّلها القتلة المتجبّرون.

وظيفة الذاكرة أن تحوّل محتوى محفوظاتها، المكتوب منها والمسموع والمرئي، إلى صور لا تختلف عن صور الضحايا التي تُنشر في الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية ومنصات السوشال ميديا.

ومهما كانت مصادر تلك صور، يبقى القلب هو الوحيد الذي يبذل جهده لدفع صاحبه إلى التعاطف… ويحدث أحيانّا أن يفقد قدرته على التحمّل!

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button