الـ أنا الأوَّل

منذ ذلك الحين، عندما توقّف الوقت، وحتّى الآتي من الأيّام، لن تحتاج لزيارة العيادة النفسيّة مجدَّداً. أكنتَ تهذي؟ لا، يا صغيري، لكن هذا ما أقنعوكَ به. كنتَ في كامل وعيكَ، لكنّك كنتَ بحاجة لدليلٍ حسّي. لم تكن قد حصلتَ بعد على البرهان، وها قد وجدته. حاولتَ التكلّم، لم تستطع. أخبرتُك: أحياناً، الواقع أعقد من أن يُعَبَّر عنه باللّغة1. فاخترتَ عوضاً عن ذلك أن تُعبّر بصريّاً – عافاك –  وعَلّقتَ صورة "ليڤ أولمان" في مدخل منزلك، وهي تصرخ، بالنيابة عنك. وحدكَ من كان يرى الصورة تتحرّك. وحدكَ، من صار يرى الصورة جامدة.

اسمع، أيّها الصغير، كان في داخلك شيءٌ يصرخ، لكنّكَ كنتَ تكبُتُه. واعتقدتَ أن المعالجة ستحرره، لكنّها كبتته أكثر – كونها، بطبيعة الحال، معالجة برجوازية، وتتبنّى موقفاً رجعيّاً من السياسة الجنسيّة. والحقّ الحقّ أقول لك: كانت هي أناكَ الأعلى الجديد. وأنتَ، أنتَ، كنتَ تحتاج لطاقةٍ حسّية، ما فوق حسّية – كما يصف ماركس السلعة، وكنتَ تحتاج لعلاقة إنسانية، مفرطة الإنسانية – كما يصف نيتشيه فلسفته. ورأيتَ هناكَ – قرب البحر، ناراً تشتعل. هَيّاها! وأخذتَ تركض صوبها.

كان هذا خلاصكَ، يا صغيري. كنتَ تركض كطفلٍ صغيرٍ يلاحق فراشة. كنت ترى حولكَ الناس تهلع، لكن عدميّتَكَ منعتكَ من مشاركتهم الشعور، أو اللاشعور. كنتَ ترى آخرين يصوّرون، هززتَ رأسَكَ قائلاً: "المجتمع المشهديّ، فليَسقط". تابعتَ دربك. وأصبحتَ قريباً للغاية/

/ثمّ بوووووم!


فليبتهج، من يتنفّس فَوق في الضوء الوردي! لأنّ أدناه، إنّه الرعب2.


***


الـ أنا الثاني

خُيّرتَ بين فَهمِ اضطرابِكَ العقليّ والعلاج بالصدمة. اخترتَ العلاج بالصدمة، لتتجنّب مواجهة أبعاد بؤسِكَ الهائلة، ولتبقى على عَماك في وضع لا تفيد فيه إلّا العيون المفتوحة3.

هاك، أتتكَ الصدمة الآن. هل تشعر بتحسّن؟ لحظة –  اللامبالاة ليست تحسّناً (أو ربّما بلا؟). على كلٍّ، حاولتُ تحذيرَكَ، يا صغيري. أخبرتُكَ كل ما أعرفه عن الفرويدو-ماركسيّة، لكنّك لم تقنَع. كنتُ كالرسول، وجاهرتُ بأن فرويد وماركس كانا أكثر من اقترب صوب الحقيقة المطلقة. لكنّكَ استهزأتَ وقلت: "الحقيقة المطلقة؟ خود! خود الفَيلَسوف!". ثم قصدتَ العيادة، يا صغيري، وعيناكَ مُغمَضتَان. بينما أنتَ في وضعٍ لا تفيد فيه إلّا العيون المفتوحة.

لم تُدرك أنّ ما تعتبره علاجاً، هو في الحقيقة پسيدو-علاج. بتعبيرٍ أبسط، صورة عن العلاج. أخبرتُك، هذا ما نسمّيه "مجتمع المشهديّة": في أنّ "عدم الرضا" نفسه أصبح سلعة، بمجرّد أن وَجَدَتْ الوفرة الاقتصادية نفسها قادرة على توسيع إنتاجها، إلى أن تشمل معالجة مثل هذه المواد الأولية4. بالمنطق هذا، سعادَتُكَ سلعة. فهل ترضى، يا صغيري؟ هل ترضى أن تصبح السعادة سلعة؟ يا عيب الشوم... اللهُمَّ إلّا إذا كان الحلّ في مكانٍ آخر           –           وهو كذلك.

رايخ، بالمناسبة، أعطاك الجواب، لكنّكَ تردّدت، لأنّه "أحمر" أكثر من اللازم: تسييس الطموح نحو السعادة. فنحن لا نعالج هنا حزناً عابر، أو مجرَّد تعب. أنتَ لستَ "حزين"، يا صغيري، ولا نحن. نتكلّم هنا عن عمليّة "تبئيس الأكثريّة". تبئيس: مِن بَأَّسَ/ يُبَئّسُ. وللفعل فاعل. أي أنّ هناك من يُبَئّسنا. وهذه مسألة سياسية حتّى العظم، وتحمل تداعياتها لاحقاً على المستوى النفسيّ.

وهل ظننتَ، للحظة، أنَّ السياسيّ والنفسيّ، ينفصلان؟ ايه احّا!


***


الـ أنا الثالث

ليس ثمَّة ما هو أكثر استقراراً وثبوتاً فينا، في الحالات السَويّة، من شعورنا بأنفسنا، بأنانا الخاص5.

كان هذا هو الاستقرار والثبوت اللّذين حاولتَ أن تبحث عنهما بينما كان يحترق المرفأ في المرّة الثانية. كانت السماء سوداء، وكان صوت المروَحة أعلى من مفعولها، وكنّا نعرَق. ولعلّكَ اعتبرتَ حينها أن الكوريدور هو أكثر المساحات الآمنة لحظة يدوّي الانفجار مجدّداً، فتقَوقَعَت هناك، بهدوءٍ وحَذَر، ورحتَ تفكّر: هل أُخبرها مجدّداً أنّني بموت بطيزها؟

ليس ثمَّة ما هو أكثر استقراراً وثبوتاً فينا، في الحالات السَويّة، من شعورنا بأنفسنا، بأنانا الخاص.

فهل تشعر بنفسك؟ ستسألني: قبل 4 آب أم بعده؟ وسأُجيب: لحظة 4 آب. 6:08. أو، على راحتك، لن أُحَدّد وقتاً. أصلاً، مرحليّاً، نحن في فترة اللاوقت (أخبرتُكَ سابقاً: ليس كل وقت هو الوقت، بعض الوقت هو اللاوقت6). على كلٍّ، أَفهَم سؤالَكَ، وأَتفهّم هواجِسَك. مش قليلة الصدمة. ستتخطّاها، ولكن، أخبرني، هل تشعر بنفسك؟

ليس ثمَّة ما هو أكثر استقراراً وثبوتاً فينا، في الحالات السَويّة، من شعورنا بأنفسنا، بأنانا الخاص.

وهكذا رأيتَ الدم الأوّل... دمَكَ الّذي علَّمكَ أنّ الندبة ذاكرة لا تكفّ عن العمل. وحلمت، وما زلتَ تحلم حتى الهزيع الأخير من الحلم، بأنّ عصفوراً حطَّ على يدِكَ، فضممتَه وشممتَه وفاحتْ من ريشه رائحة الصيف، ولَثَمتَه، ثم كلّمتَه قائلاً: يا أخي! عُد إلى فضائِكَ، فعاد إليكَ في حلم الليلة التالية7.

ثمّ ليس ثمَّة ما هو أكثر استقراراً وثبوتاً فينا، في الحالات السَويّة، من شعورنا بأنفسنا، بأنانا الخاص.

ولا بأس، إذا جعلتَ تبكي، بين الحينِ والآخر، لأسبابٍ تافهة، أو بلا سبب، هكذا تبكي، لأنَّكَ أصبحتَ العبءَ الّذي ستحمله طيلة العمر على كتفَيك. أو لأنّكَ أحببتَ ولا تقوى على العيش لأجل من تحبّ، لشدّة ما أوهَنكَ التعب، لشدّة ما لاشاكَ وبدَّدك وغَيَّبك وجعلكَ ركاماً. فكيف تقوى على العيش، حفنة ركام8؟


________

الاقتباسات: 1. ألفاڤيل، جان-لوك غودار (1965) / 2. الغطّاس، فريدرك شيلر (1797) / 3. استمع أيّها الصغير، وِليام رايخ (1945) / 4. مجتمع المشهديّة، غي ديبور (1967) / 5. قلق في الحضارة، سيغموند فرويد (1929) / 6. ليس كل وقت هو الوقت، سمير سكيني (2020) / 7. في حضرة الغياب، محمود درويش (2006) / 8. مجرَّد تعب، بسّام حجّار (1993)

الصورة: مشهد ثابت من وراء كواليس فيلم The passion of Anna، للمخرج إنغمار برغمان (1969)

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button