[المدّ والجزر] ظاهرة طبيعية من مرحلتَين تحدث لمياه المحيطات والبحار.
مرحلة المدّ يحدث فيها ارتفاع وقتي تدرّجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر.
ومرحلة الجزر يحدث فيها انخفاض وقتي تدرّجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر.
وتنجم هذه الظاهرة عن التأثيرات المجتمِعة لقوى جاذبية القمر والشمس وحركة دوران الأرض التي تولّد بعض القوّة الطاردة المركزية عند خط الاستواء1.

مرحلة الجَزر

لن أعاتبَك، لا تقلق. لا لَوم لي عليك، ولا سَخَط. حاولتُ أن أكون دومًا في موقع المُتفهّم، مع كل ما يحمله ذلك من ضرر. رأيتُكَ حينما غادرتَ العيادة النفسيّة، كنتَ متردّدًا، وكان بكَ رغبة في العودة. حذّرتك في المرّة السابقة2: ليسَ هذا علاجًا، بل صورة عن العلاج. وعليه، لا تَعُد، مع كل ما يحمله ذلك من ضرر.

سوف يرحل شخصُكَ المفضّل، من دون أن يودّعك. لا بأس. اجتهد لتلتمس له حُجَجًا (لن تجد. خخ، انسَ الموضوع. نعمة النسيان يا بَختك! أتمنّى أنسى حبَّك، ألقى النسيان أماني... وانتَ مكتوب لَك يا بختَك، نعمة النسيان3). لكن إيّاك أن تلتفت إلى الوراء، إيّاك والعودة. سوف تُغادر الرصيف وتفكّر: هل أعود؟ أقلّه من أجل قبلة وداع، كما في الأفلام، هل أعود؟ لا. لا تفعل، مع كل ما يحمله ذلك من ضرر. 

لاحقًا سوف تبحث – بعد الأورغازم الأوّل – بمسائل تبدو للوهلة الأولى ليبِراليّة (وإن كنتَ جديدًا على السياسة، فاعلم أنّ الليبِرالية "كِخًّا يا بابا")، لكنّها، أقصد هذه المسائل، في عمقها، اشتراكيّة بامتياز. مثلاً: اللّطافة. واللّطافة – على عكس ما يقوله البعض – مسألة ضرورية، شديدة الضرورة، سيّما من الأشخاص الذين تُعَوّل عليهم لإمدادك بها، وهم قلّة. قلّة قليلة. سَمّهم "أوليغارشيا اللطافة" إن شئت.

فهم يملكون وفرة من اللطافة، لكنّهم يحتكرونَها، ويصرفونَ منها حسب أهوائهم، لا حسب ضرورتها بالنسبةِ لك. بينما هي أساسيّة لاستمرار الحياة بقدر ما هو الهواء أساسيّ. لكن لا تقلق، البديل موجود (ايه احّا! هاهاها). أقصد البديل عن المصدر المذكور للّطافة موجود، فإنّ الله – إن وُجِدَ هو الآخر، قد أنعَمَ علينا بـ الموسيقى (والقطط، والشوكولا)، وهي ما ستعوّض عليكَ القدْر الأوفر من اللطافة المفقودة في عالمِكَ اليوميّ؛ عدا عن كَونها وسيلة تعبير أنفع بأشواط من اللّغة. أخبرتك سابقاً: أحياناً، الواقع أعقد من أن يُعَبَّر عنه باللّغة4.

لهذا السبب، كلّما اشتدَّ تعلّقكَ بالموسيقى، قَلَّ تعلّقكَ بمحيطكَ (وازداد تعلّقك بالمحيط، وهدوء الأزرق). مثالاً على [اللطافة في الموسيقى]، اسمع: Ketil Bjornstad, Prelude 13 / أو Philip Glass, Orphée suite (II). اسمع، وستكتشف بنفسك: "ما زلتَ تملك كلّ الحياة لتعيشها".

***

مرحلة المَد

من دونِ تواصلٍ مباشر بيننا، أَعلَم (حَدْسياً، par intuition) أنّني لم أستطع إقناعك إلّا بجزءٍ من حديثي. أرى فيكَ بينما تقرأ، شيئًا من التردّد، سيّما تجاه إصراري على رفض العودة إلى الوراء. أُصارحك، يا صغيري: أنا أيضاً تردّدتُ (في البداية). لكنّ القَطْع ضروريّ أحيانًا، على الأقل لتنقذ ما بقيَ منك. ومغريات العودة كثيرة، أعلَم:

إيّام منعدّا، ولو فينا منردّا

كنا رجّعنا أحباب فارقناهم / كنّا صالحنا أصحاب زعّلناهم / كنا سامَحنا يلّي جارِحنا / كنّا الّي مرة جْرَحناه، رحنا نقلّه سامِحنا.

كنّا رَدّينا أوقات، صارت هلّأ ذكريات، لكن يا خسارة الحياة، بتمرق ما فينا نردّا5.

تُكبّلني هذه الكلمات دائماً؛ كيف لا تعود إلى الوراء من بعدها؟ وانتبه، هي الآن مكتوبة، وبالتالي مقروءة، لكنّها عادةً مسموعة، تحديداً بصَوت وردة الجزائرية. وردة، الّتي لطالما جاهرْتَ بأنّك تفضّلها على أم كلثوم، على عكس الرأي السائد الذي يهمّش لطافة وردة على حساب تأوّهات الستّ. علمًا أنَّ في جلستكَ اليوميّة، ما بعد انتصاف الليل، وبينما تحتضن زجاجة الوِسكي وتشرب منها مباشرةً دونَ حاجتِكَ للكأس، تستمع إلى أم كلثوم، مش لوردة. تحديداً لذاك السبب، لتتهرّب من تلك الأغنية، لئلّا تعود إلى الوراء وألّا تعدّ الأيّام وألّا تحاول أن تردّها برَسائل طويلة وغبيّة على الواتساب. أمّا أم كلثوم، بالمقابل، فأعتقد أنّها تقذفنا إلى الأمام. واقعيّة. مثلاً: ترى الأطلال / تبكي / تسكَر / تندم / تستنج أنّ الندم لا يفيد / ثم تمضي، تقطع مع السابق.

أعطني حريّتي أطلق يدَيَّ. إنني أعطيتُ ما استبقيتُ شيئا6.

هنا، أيّها الصغير، مفتاح الرحلة. بين أم كلثوم ووردة / بين العودة واللا-عودة / بين ضرورة اللطافة و احتكار المَوَدّة. بس ليش الردَّة ع وردَة؟ بالصدفة قلنا وردَة. ومين الّي فتح الردَّة؟ أنا الّي فتحت الردَّة... وردَة بتوصَل من هَون، وأنا بفركها من هَون. ويا خسارة الحبّ، يا خجلة الأمل، تهرب الإيّام وتخلَص بلا أمل7.

وبغضّ النظر عن الأمل؛ هنا، يا صغيري، لبّ الموضوع. في حسم خيارك، وتحمُّل تبِعات القرار. ولا تقلق، فهذا جزءٌ من شخصيّتك اللاحقة، وجزء من تكوينِكَ النفسي السابق، وجزء من مزاجك الحالي. والفراغ لن يبقى فراغًا. هنا تعبر فوق الفراغ، هنا الجهد في الانتقال من ضفّة إلى ضفّة. هنا تُبحِر، تتمسّك بحلمك معانِدًا، تحقّقه أو تجهضه (بَحلَم معاك، بسَفينة، وبمُوجة، تِرَسّينا، ونبَحَّر تاني. والريح تعاند8...) .

هنا إذاً، في هذه المساحة الوسطيّة، ترقد أحلامك المنهوبة. وهذا ما يغريك للعودة. بدنا نسترجع أحلامنا المنهوبة. كمشتَك! قُلها يا صغيري، بصوتٍ عال. لا تخجل. اكتب نصًّا حول الموضوع. سَيّس القضيّة. اكتب "مانيفستو الأحلام المنهوبة"، واشرح لنا كيف ستسترجعها، بدءاً من المواربة للحصول على حصّتك من البوظة في نهاية موعد غرامي، وصولاً إلى سَحل رياض سلامة وسائر عرصات التحالف الطبقيّ المُسَيطر في شوارع بيروت.

اكتب المانيفستو، وتَمَجلس على ضفّة البحر ورددّه للنجوم بينما المَدّ يداعب الرملَ وأسفل قدمَيك.
أو اكتب المانيفستو، واشرَب من الزجاجة مباشرةً واركض في أزقّة الحمرا وجاهر به على مسامع السكارى الآخرين.
اكتب، وستكتشف بنفسك: "ما زلتَ تملك كلّ الحياة لتعيشها".

 

1. ويكيبيديا الموسوعة الحرّة (أدري، مصدر غير دقيق)/ 2. رحلة في البحث عن الـ أنا، سمير سكيني (2020)/ 3. نعمة النسيان، ميّادة الحنّاوي / 4. ألفاڤيل، جان-لوك غودار (1965)/ 5. إيّام، وردة الجزائريّة/ 6. الأطلال، أم كلثوم/ 7. سهريّة، فيروز/ 8. بحلم معاك، نجاة الصغيرة.
الصورة: مشھد ثابت من فيلم Persona للمخرج إنغمار برغمان (1966) 

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button