ها هو الفولكور الشعبيّ حلّ علينا. ها هم الآن أمامي أفواج المهندسين، والأطباء، والمحامين، وأفواج الطناجر، بانتظار أفواج البطاطا. آخ! سأطفئ التلفاز. كم أنا بأمسّ الحاجة لحالة طوارئ، وراديكالية الموقف، والرغّبة بتشويه العلم اللبناني المطبوع على وجهكِ ووجهها ولبنان ذو الوجهين، ودعق دولاراتِكَ التي لا تُحصى في مؤخّرتِكَ أيها الثائر المتطفِّل! 

الآن الموعد مع مواقع التواصل الإجتماعي. بين الفينة والأخرى أغرق في معاجم اللغة أجمعين بحثاً عن مصطلح "الثورة"، الذي يبدو مرّ عليّ على غفلة. إسألوا بعض "الإنفلوينسرز" الإنفلوينزا التي تضرب البلاد بالطول والعرض؛ لديهم الكثير من الأجوبة فهم ثورة الأجانب في لبنان. إسألوا الفنانين "الملتزمين" الذين باعوا إنتاجهم لحيتان المال، ناهيكم عن الوجوه الجديدة "الطيّبة" المقتحمة باب الفن من بابه العريض، والأغاني الـ"نيو ثوريّة" المتطفّلة التي حيَّرت عظماء الموسيقى في قبورهم. آخ! إلهي أبعِد عنّي هذا الهاتف. كم أنا بحاجة إلى حالة الطوارئ الطويلة. 


بناءً على أنه انطلقت ثورة أو انتفاضة أو تحرّك، والحبل على الجرار، رجاءً بعضٌ من الثورة على النفوس أولاً، والتخفيف من النرجسيّة والوقاحة. عذراً على القول إنّ شعب لبنان العظيم هو - والله العظيم - من أوقح شعوب العالم، بالأحرى شعوب "لَبَانين" العظيمة، بالجمع. 

الرقيب والحسيب لن يرحمنا على أننا "شعب لبنان العظيم"، فقاعدة البيانات العالمية تحتوي على "سور الصين العظيم"، أو "بريطانيا العظمى"، أو"الجمعة العظيمة"، لذا لا تستغربوا عندما تَرِد كلمة لبنان قبل كلمة عظيم وتحصلون على جواب " لا تعريف! رجاءً جرّب "لَبَانين"، "لبنانكم"، "لبناننا"، "لبن"، "لبنة" "


رائحة أفواه الطفيليّين و"المتواطنين" تُشعِل الغثيان من نخاعي إلى إصبع رجلي اليسرى.

فَلْتَرة الانتفاضة وإمّا الغثيان. كيف؟ التركيز على الأهداف الاستراتيجية لسحب "المتواطنين" والطفيليّين من ركوب الموجة. إلى البنك المركزي! إسمع. لم تسمع، أكرّر. إلى البنك المركزي، على البنك المركزي، إلى المصارف، الأملاك البحرية، مراكز السلطة، البيوت السياسية ربّما – لا حولَ ولا قوّة، شركات الاتصالات، المؤسسات والشركات الخاصة بحيتان المال، لخنق الطبقة الحاكمة أكثر وأكثر وضرب مصالحها الحسّاسة بشكل مباشر وجدّي.

الفلْتَرة بتسكير الباب أمام "المتواطنين" الذين يستثمرون التحرك بكافة أشكاله، أهمّها قطع الطرقات بنيّة خبيثة، تذكيراً لنا بالممارسات الجذّابة أثناء الحرب الأهلية. انتزاع البقعة الجغرافية المسمّاة لبنان من شركة "أمراء الحرب وحاشيتهم وأصحاب رؤوس الأموال". 

إنّ قطع الطرقات وافتراشها و"الثورة الخجولة" لا "تحبِّل"! بعضٌ من الشغب يُنعِش قلب الإنسان، فما أُخِذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة.

آن الأوان لتحطيم المقدّسات التقليديّة التي حوّلت البلاد إلى هيكل مريض تفوح منه رائحة نتنة لن تودي به إلّا إلى الابتعاد أكثر عن الخارطة العالمية.


الانتفاضة تبدأ من العمق لتصل إلى رأس الهرم. على ربّ عملك الذي يستعبدك ويهدّدك بالطرد، على بلديّتك التي يطمرها الفساد وتطمر ميزانيتها، على حاشية الإقطاع التافهة وفرضت حالها على المجتمع رغم أنف الجميع، على السطلة الدينية المتمثلة برجالها رؤساء العصابات الذين يفرضون عليك دفع الخوّة بكل مناسبة. انتفاضة على الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني واتفاق الطائف، والدوحة، والبلحة، وعندها الفرحة الكبيرة. لا مفرّ من الانهيار الشامل للنهوض.


التركيبة أشمل بكثير ممّا تُصوَّر الآن. هي جارية في المياه اللبنانية، في الصحن اليومي، تمتصّ دماءنا. التركيبة متماسكة متجذِّرة عمرها عقود، تشمل السلطة الحاكمة المتمثّلة بزعمائها وأمرائها والإعلام، بأقسامه كافّة ورموزه المأجورين، والشركات والمؤسسات الإعلانية والسلطة الدينية والجناح الفني المأجور.


الأزمة ليست اقتصادية فقط، هناك أزمة بنيويّة، أزمة كيان وهوية، أزمة مذهبية طائفية مناطقية. كلّا هذه الإنتفاضة التي نشهدها لم تلغِ حاجز الطوائف فجأة، لم تلغِ المذهبية والعنصرية من النفوس. المشاهد الفولكورية البالية لا توحي بالثقة والاطمئنان، إنما أحاديث الصالونات وخطوط التّماس التي ما زلنا نشهدها تعود وتلوح من جديد في ظرف دقائق.


رسالة تفاؤل (حتى لو أنّي لست من هذا المذهب ضمناً) إلى جميع فئات الشعب اللبناني من الطبقة الوسطى وما دون، والذين يعتبرون أنفسهم متضرّرين من السياسات الاقتصادية منذ عقود، إن كنتم لا تريدون لبنان ساحة حرب لإرسال رسائل إقليمية اقتصادية واهية دون غاية وطنية، وإن كنتم لا تريدون لبنان "كانتونات" امتداداً للكانتونات التي تشهدها المنطقة (والتي ستشهدهاً تباعاً) ذليلة خاضعة لغطرسة ملوك الظلم وعروش الحرير، فحان الوقت لانتفاضة، بشتّى الوسائل، على أمراء الحرب ومَن وراءهم من سلطات دينية وأصحاب رؤوس الأموال. حان الوقت لوضع هيبتهم في المرحاض وانطلق! دون جرأتكم أي انتفاضة تكون واهية. 

غير ذلك يا أصدقائي أنتم تؤكّدون حتميّة صدقية أنّ ما بُنِيَ على باطل فهو باطل.

عملياً، الحاجة طارئة اليوم للعمل بشكل جدّي، والمسار طويل ويستلزم الانفتاح والجرأة، لخلق بيئة حاضنة لهؤلاء "المتردّدين" الخاضعين كرهاً لرحمة زعمائهم وشبّيحتهم.

هذا ما يتعارض تماماً، وهو واحد من أسباب جمّة، مع فوضوية وعشوائية التحرّك، ومنطق "نحن تحرّك عفوي" و"أنا قائد الثورة"، فإدارة الأزمة والبلاد ليست لعبة و"طقّ حنك" وشعارات رنّانة واستنساخ التجربة السورية. وجود قيادات وتنظيم واضح وأهداف استراتيجية وطروحات بديلة ليست بتهمة، العمل الحزبي التغييري الثوري الحقيقي ليس جريمة أو موضة قديمة.


عودة إلى العام 2013: 

إنّ الطُّفَيْل هو كائن حيّ يتطفّل على غيره، في داخله أو خارجه. 

وحسب كتاب التَّطفِيل، فالرجل الطفيليّ هو من يجيء مع الضيف ويَحْضُرُ وَلِيمَة أو عُرس أو حملة إسقاط نظام دون أن يُدْعَى إليها. والكلمة منسوبة إلى رجل من أهل الكوفة، ولكن لم يُقَل إن كان يستمع إلى أناشيد ثورية حماسية أم لا أو إن شارك في تظاهرة أو حملة إسقاط.

وتطَفَّلَ الرجل كما رَشَنَ الكَلْبُ في الإِناءِ يَرْشُنُ، رَشْناً ورُشُوناً أَدْخَلَ فيه رأْسَه، ليَأْكل ويَشرب.

حذارِ إنّ التطفل يختلف عن شبه التطفّل حيث أنه علاقة يقوم فيها الطُّفيل دائمًا بقتل العائل.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button