في الحوارات الشهيرة بين ألفريد هيتشكوك وفرانسوا تروفّو، يميّز هيتشكوك بين التشويق (suspense) والمفاجأة. فالمفاجأة هي عندما يحصل أمر لا يتوقعه المُشاهد، فلا شيء في المشهد يهيّؤه للحدث القادم. أمّا في حالة التشويق، فيكون المشاهد حاضراً ومشاركاً في المشهد، متوقعاً، عبر دلالات يعطيها المخرج، أنْ ثمة شيء مهم أو خطير آت ليغيّر المعادلة.

خلال الحرب الباردة كان العالم يعيش حالة من التشويق الهيتشكوكية، دلالات كثيرة كانت تنذر الجمهور بأن انفجاراً كبيراً آت حتماً. بالنسبة لستانلي كوبريك، قد يأتي الانفجار على شكل صاروخ نووي يَرْكَبُه راعي بقر من تكساس، مصاب بالعجز الجنسي، مجسِّداً حتمية انفجار عالم يحكمه العنف والكراهية والخوف من الآخر. بالنسبة للفيلسوف الألماني مارتين هايدغر، الانفجار حاصل أصلاً، قبل أن تنفجر أول قنبلة نووية. فبوجود هكذا سلاح، فتحت البشرية باباً في التاريخ ووضعت أمام أعينها شروط إبادة الحياة على الأرض. وهذه الشروط بحد ذاتها، بالنسبة لهايدغر، هي الانفجار، هي الكارثة. ولكنْ في الحالتين، يهيمن الرعب والقلق على العقول في ظل استراتيجية "الدمار المتبادل المؤكد" (Mutually Assured Destruction).

في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عاش كوبريك حالة من القلق الثقيل وصلت لحدود الذعر والارتياب. كان يشعر بأن انفجاراً كبيراً سيدوّي عاجلاً أم آجلاً. انفجارٌ سيقضي على الحياة بأشكالها، على الأقل في النصف الشمالي من الكرة الأرضية. لذلك كاد أن ينتقل مع عائلته إلى أستراليا حيث العشب أكثر اخضرارا وأقل شعاعية في حال اندلعت حرب نووية بين شطري الحرب الباردة. ومع توالي الأزمات بين المعسكرين، بدأ كوبريك بالتفكير جدياً في صناعة فيلم يتناول سيناريو حرب نووية بين المعسكرين، لعلّه بذلك يواجه بعضاً من قلقه و"يمسك الثّور من قرنيه". 

في هذه الأجواء ولد فيلم "الدكتور سترينجلوف، أو كيف تعلّمتُ الكف عن القلق وأحبَّ القنبلة."(Dr. Strangelove or: How I Learned to Stop Worrying and Love the Bomb - 1964)، تحديداً بين أزمة برلين عام 1961  وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1963، وعُرِض في الصالات عام 1964 بعد أشهر قليلة من اغتيال جون ف. كينيدي. 

غالبية أفلام كوبريك تطلّ على الوعي البشري من خلال شخصيات ومواضيع تقف على الحدود القصوى للقدرة البشرية المادية والفكرية، لذلك كانت أفلامه وما تزال مثيرة للجدل، واسعة الخيال؛ من العبودية والثورة في "سبارتكوس" ( - 1960  Spartacus)، إلى الإجرام وإعادة التأهيل في"برتقالة آلية"(A Clockwork Orange - 1971)، وإلى الجنون والعنف الزوجي والعائلي في "شاينينغ" (The Shining - 1980)، حرب فيتنام وجنونها في "فولّ ميتيل جاكيت" (Full Metal Jacket - 1980)، التطوّر البشري ومصير البشر في الفضاء وعلى الأرض في "2001: أوديسا الفضاء" (2001 : A Space Odyssey - 1968) الرغبة والجنس والخيانة في "عيون مغلقة على اتساعها" (Eyes wide shut - 1999)، وموضوع الحرب الباردة ونهاية العالم في "الدكتور سترينجلوف". 

في "دكتور سترينجلوف"، يقرر جاك ريبر، جنرال قاعدة عسكرية أميركية الخروج عن طاعة القيادة العليا وإرسال عشرات الطائرات لقصف الداخل الروسي بقنابل نووية لمعاقبتهم على نشر المؤامرة الشيوعية في العالم عموماً وفي جسده و"رجولته" خصوصاً. تعلَم القيادة الأميركية بإعلان الحرب وتحاول مع قيادة الاتحاد السوفياتي إبطال مفعول قرارات الجنرال ريبر وتداعياتها. 

اللافت والمثير للجدل في هذا الفيلم لا يكمن فقط في افتقاده لبطل واحد وحيد يواجه العالم ومشاكله وقنابله، إنما أيضا في أن الشخصية الرئيسيّة هي السلطة بحد ذاتها، التكنوقراط المسيطرة على الواقع والتي تظهر طوال الفيلم غير مدركة أو مسيطرة فعلاً على الواقع. بل على العكس، تظهر التكنوقراط كسلطة مثيرة للسخرية والشفقة في آن معاً وأسيرة غباء ونظام خلقته بنفسها ولكنها لم تعد تتحكم فيه. 


جنون نووي وعجز جنسي

للفيلم خطان سرديان ضمنيان (subtext) ينعكسان على مجرياته التي تتراكم وتتسارع على الطريق نحو الانفجار. الأول هو الغباء وعدم الكفاءة، أما الثاني فهو موضوع الجنس والرجولة. 

في الغباء التاريخي والعسكري، يطرح المؤرخ الإنكليزي أ.ج.ب تايلور نظرية غريبة، تكاد تكون مضحكة لشرح بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914. النظرية تفيد كيف أن جداول مواعيد القطارات الأوروبية هي التي أملَت مجريات بداية الحرب. فالقوى الكبرى حتى في عام 1914 لم تكن ترغب بالذهاب إلى حرب أوروبية شاملة. إلا أن الخوف من الحرب الذي كان يخيّم في الأجواء، والارتياب الذي حصل بعد التسلّح الأوروبي واغتيال ولي عهد النمسا دفع هذه الدول إلى إعلان نفير عام من دون إعلان الحرب. أما الألمان، فقد أعلنوا النفير ولكنهم "اضطروا" إلى أن يذهبوا إلى الحرب احتراماً لمواعيد جداول القطارات التي كانت كلها مترابطة بعضها ببعض، وفضّلوا الالتزام بها. وهكذا حدّدَت هذه الجداول مجريات الأيام الأربعين الأولى من الحرب الكبرى. 

طبعاً، لا تخلو هذه النظرية من التسطيح للعوامل التاريخية والمادية والتراكمية التي أدت إلى الحالة الحربية العالمية، لكن العبرة منها هي بوجوب ألّا ننسى عامل الغباء كواحد من محرّكات التاريخ البشري نحو الكارثة. وهكذا في فيلم كوبريك، يتراكم الغباء السلطوي فيه ويخرج الوضع عن السيطرة. 

أما الخط السردي الثاني في الفيلم، فيتعامل مع إشكالية الجنس والرجولة. يبدأ الفيلم بإيحاءات جنسيّة مبطّنة. ولكن الجنس هنا ليس بين البشر، بل بين طائرتين، تملأ الأولى خزّان الثانية بالوقود جوّاً بواسطة خرطوم طويل، وذلك على وقع موسيقى شاعرية تفتتح الفيلم وتقرّب المسافة بين الحرب وأدواتها من جهة، والجنس من جهة أخرى. أضف إلى ذلك أن المرأة غائبة عن الفيلم، باستثناء امرأة وحيدة تؤدّي دوراً ثانوياً، كسكرتيرة وعشيقة الجنرال تورغيدسون، أحد المعاونين العسكريين الأساسيين للرئيس الأميركي. 

يقترح الجنرال تورغيدسون على الرئيس عدم محاولة إيقاف الطائرات البتة والاستفادة من قرار ريبر من أجل قصف روسيا والاستمرار بالعملية حتى النهاية، مؤكداً للرئيس أن الخسائر في الأرواح الأميركية ستبقى محدودة - بضعة ملايين فقط لا غير. أما الجنرال ريبر، المسؤول الأول والمباشر عن الفاجعة فغارق في العُقد الجنسية، يحمّل السوفييت بشتّى الطرق الملتوية، مسؤولية عجزه الجنسي والجسدي، يدخن سيغاره ويقرر تفجير الاتحاد السوفييتي انتقاماً لعجزه. ويتكرر هذا الربط بين الحرب والجنس خلال الفيلم في قالب ساخر يجمع هؤلاء الرجال. تجدر الإشارة هنا إلى قراءات نسوية عديدة ظهرت في فترة لاحقة، تطرح فكرة أن الفيلم يقدّم نقداً للرجولة ويُظهِر الحرب كفنتازم ذكوري ناتج عن عجز جنسي أو عن هوس جنسي بالحرب.

الجنرال ريبر ليس الشخصية الوحيدة التي تجسد العلاقة بين الجنس والقوة والحرب، إذ يلعب الدكتور "سترينجلوف" هذا الدور أيضاً. الدكتور سترينجلوف هو عالم ألماني مُقعَد، يعاون الجنرالات والرئيس الأميركي في غرفة الحرب. لكن الدكتور ليس مجرد عالم ذرة فهو أيضا نازيّ سابق وحالي رغم محاولته محاربة نازيته، إلّا انها، مثل حافز الموت (death drive) لا تنفك عن تكرار ظهورها، إما عبر الكلام وإما عبر حركات جسدية لا تنتمي مباشرة لجسده، خصوصا من خلال يده التي رغم محاولاته السيطرة عليها، تبقى أقوى منه وتؤدي التحية النازية رغماً عنه. ويجمع كوبريك في هذه الشخصية الفاشية الوحشيةَ والجنس، فالدكتور يُستثار كلما تحدث أو سمع عن القتل الجماعي أو الذبح.

العلاقة بين الفاشية والنزعة العسكرية (Militarism) والجنس والجندر ليست غريبة عن المجتمعات البشرية. فكل نظامِ سيطرة يحتاج لأجساد ضعيفة يقهرها، العمال والنساء والمثليون، وهو يعود اليوم كعنصر أساسي في الأيديولوجيات الرجعية الجديدة، والتي تستعير من جماليات الثورة من دون أن تكون ثائرة حقاً. هذا ما يقترحه الفيلسوف الماركسي فرانكو بيراردي مثلاً، خاصة في وصفه شعورَ العمّال الرجال بالإهانة والعجز المادي بعد عدة عقود من الذلّ النيوليبرالي وسعيهم لعكس هذا العجز عبر تبني أيديولوجيات رجعية تلبس ثوب الثورة، عوضاً عن مكافحة البنى المادية التي أوصلتهم إلى هذا الشعور بالذل، أي قوانين الإنتاج والاستهلاك الرأسمالية. وتتجه هذه الأيديولوجيات إلى تحميل المستضعفين وزر مسؤولية الخراب. لكن رجال الفيلم (ريبر وسترينجلوف وتورغيدسون)، باستثناء شخصية رئيسيّة وحيدة، ليسوا بمستضعفين، بل هم في موقع القوّة والسلطة.  

ليس صعباً تخيّل أحد هؤلاء الرجال اليوم كجنرال أو سياسي أو رئيس أو إعلامي أو أوروبي أو روسي أو عربي أو تركي، غبي أو مجنون، يتحدثون كشخصيات فيلم دكتور سترينجلوف للإعلام عن الخطّة النسوية اليسارية الغوغائية "النيو ماركسية" "الإسلامو-يسارية" التي تريد القضاء على "رجولتنا" أو على "الحضارة الغربية" أو على "عاداتنا وتقاليدنا العربية" أو على العرق والرجل الأبيض أو على أي خط أحمر خرافي رسمته وترسمه الأيديولوجيات الفاشية وشبه الفاشية الجديدة.

هكذا تجتمع هذه الخطوط في الفيلم لتطرح خطاباً قد يكون سابقاً لعصره في السينما الهوليوودية التجارية. فكوبريك يرسم لنا لوحة للقوة في عصرنا الحديث، صورة يتقاطع فيها الغباء بالإجرام وإفراط في الرجولة أو بنقصها، كل ذلك في إطارٍ كوميدي ساخر يحوّل القلق من الانفجار المحتم إلى ضحكٍ من دون أن يزيل لذع النقد تجاه السلطة.

وما يشغل بال كوبريك أيضاً، هو فقدان هؤلاء الرجال السيطرة على ما صنعته أيديهم، فيكرر هذه الثيمة بعد بضع سنوات في فيلم 2001 حيث يفقد رواد الفضاء السيطرة على الذكاء الاصطناعي "هال". وهكذا تكون يد الدكتور سترينجلوف مصغّراً عن الفيلم.


فلماذا نضحك إذاً؟

قال كوبريك أنه عندما قرر أن يصنع فيلماً عن هذا الموضوع، قرأ عشرات الكتب والبحوث والسيناريوهات المحتملة للاشتباك. وبعد التحدث إلى الخبراء والكتّاب، لم يستطع أن يبعد الكوميديا القاتمة عن السيناريو. وهكذا قرر أخذ الحبكة باتّجاه "كوميديا الكابوس" (Nightmare comedy) كما سمّاها. لكن هذا التناقض السّردي والنصّي بين الكابوس والكوميديا ليس الوحيد في فيلم كوبريك، المخرج المهووس بالتناقضات. إذ يكمن التناقض الثاني في ما بين الشكل والمضمون. 

علّق أحد النقاد عند مشاهدته الفيلم قائلاً أن الفيلم"لا يشبه الكوميديا". وبالفعل كوبريك لا يصنع فيلماً كوميدياً كلاسيكياً من حيث الشّكل والجماليات. إذا شاهدنا الفيلم من دون صوت قد نظن أننا نشاهد فيلماً سياسياً بالغ الجديّة، يُستخدَم فيه الأسود والأبيض الشبيه بـ "الفيلم الأسود" (Film noir). والاستنتاج نفسه يمكن الوصول إليه من خلال اللقطات الواسعة في غرفة الحرب واللقطات شبه الوثائقية في مشاهد القتال في القاعدة العسكرية. ثم هناك التفاصيل الواقعية العسكرية. حتى أن البنتاغون أصرّ على ضرورة إضافة نص توضيحي في بداية الفيلم توضح للمشاهدين أن الجيش الأميركي الحقيقي قادر على التعامل مع هكذا حوادث وأن كل أحداث وتفاصيل وشخصيات الفيلم لا تمتّ للحقيقة بصلة.  

في موضوع الشرخ، كتب جيل دولوز في أوائل الثمانينيات كتابين عملاقين عن السينما وخاصياتها كفن جديد، والمفهوم والنظرية الفيلمية وعلاقتها بالفلسفة والفكر: " صورة الحركة" و"صورة الزمن". الفاصل بين الكتابين وبالتالي بين مفهومي السينما لدى دولوز، هي الحرب العالمية الثانية التي يقول دولوز أنه باندلاعها فقدت البشرية قدرتها على التحكم بمصيرها، أو فهم عمق الكارثة. وهكذا يؤكد دولوز أن السينما توجهت من الحركة إلى الزمن، من حركة الشخصية في الإطار السينمائي وقيادة حركة الشخصية للمونتاج وحركة الكاميرا إلى تراجعها، في سينما "الحداثة" مع أفلام روسيليني مثلا، إلى سينما المراقبة والزمن الذي يمر من دون أن يكون مرتبطا بحركة الشخصية، حيث الحركة مفككة وتركيبة الفيلم لا تتبع مبدأ الفعل وردة الفعل.

كوبريك، اليهودي الذي شاهد رعب الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الثانية لا بد أن يكون قد رأى نوعاً من الـ فلاشباك في التوتر النووي خلال الحرب الباردة. وفي إحدى ملاحظاته المكتوبة حول سيناريو سترينجلوف، يقترح كوبريك نقلة مشابهة لتلك التي يصفها دولوز، أي الانتقال من الجدية في نقد أو عرض موضوع جاد، إلى السخرية في وجه الرعب وفي وجه فقدان السيطرة على مصيرنا. وهذا ما يشرح الشرخ والتعارضات في شكل الفيلم ومضمونه. 

اليوم تقول لنا "ساعة القيامة" (Doomsday Clock) أننا نعيش خطراً وجودياً يعادل ما كان يعيشه العالم في حقبة الحرب الباردة: البشرية على بعد "دقائق" من النهاية الأزلية. القنبلة التي قلق منها كوبريك وجسّدها في سترينجلوف هي، لنستعد هايدغر، ليست سوى تجلّ لكارثة ماديّة حلّت جذرياً بحضارتنا. هذه الحضارة وأزمتها التي جسّدها كوبريك، قادرة على أعلى درجات القتل والتنوّر في آن معاً، والمسؤولون عنها والمستفيدون منها لا يزالون عالقين في مشاعر بدائية لا قدرة أو رغبة لهم على مواجهتها أو معالجتها سوى عبر العنف والساديّة. الساعة تدق وهم لم يتعلموا الحب بعد، فسترينجلوف، كطبقة اجتماعية وكعقيدة، لا يزال يسرح ويمرح ويستثير وينتصب بيننا كلما سمع، أو استطاع أن يشارك في انتحارنا. ونحن، ككوبريك، نقاوم في وجه الكارثة، بضحكات، لعل قلقنا يتحول غضباً في وجه الدكتور سترينجلوف وانفجاراته القادمة.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button