كانت درجة الحرارة في برلين قد وصلت إلى ثماني درجات تحت الصفر عندما كان هربرت (ماركوزه) يعبر شوارع المدينة وعلى ظهره حقيبة الديليفري الحافظة للحرارة. حيوان هامستر عصري يدور في دوامة ويستلم الطلبيات على هاتفه الذكي، ماكينة نقل تُغذّي نفسها وغيرها. كتب ماركوزه تحديثاً على حسابه في تطبيق Ubereats لتوصيل الطعام: "الطعام وقود للجسد". تتابع العجلة دورانها ويتحجّم العالم في ضغط الزمكان.

صعد ماركوزه على الدرج إلى الطابق الخامس وقرع  الباب، ثم انتظَرَ ليلتقط أنفاسه قبل أن يردد العبارة المعتادة عندما يُفتَح له : "لديّ طلبية من ماكدونالدز للسيدة آين راند. تتحقق آين راند من الطلبية وتجيب: "لكنني طلبت قنينة سبرايت مع الهمبرغر، سأتصرف بناءً على ما تمليه عليّ مصلحتي الشخصية وأبلغ عبر التطبيق أنني لم أتلق أي طعام."تأمّلَ ماركوزه الفراغ محاولاً استيعاب ما تردد على مسامعه، وأجاب ببساطة: "لكن لم يكن هناك سبرايت في الطلبية". ردّت آين راند غير مكترثة: "لا يهم، هذه ليست مشكلتي". إندهش ماركوزه من موقف  آين راند وأجاب: "صراحة سيدة راند، ما يسمى بالمجتمع الاستهلاكي وسياسة الرأسمالية قد خلقت طبيعة ثانية للبشر تربطهم بشهوانية وعدوانية بالشكل التسليعي. إن الحاجة إلى امتلاك رغباتنا واستهلاكها وتجديدها باستمرار تدفعنا إلى تكريس حياتنا لكسب لقمة العيش، ولذلك نحن غير قادرين على عيش وجود إنساني أصيل". وفيما كانت آين راند تستمع إلى صَخَب ماركوزه، كانت الهمبرغر تبرد شيئاً فشيئاً، فقالت: "بعد كل هذا الفرمان، ما زلت لا أرى قنينة السبرايت. هذا الأمر الذي تتحدث عنه لا يعنيني، وبالمناسبة، الثروة هي نتاج قدرة الإنسان على التفكير". ثم أغلقت باب شقّتها. 

على وقع ضربة الباب المدوّية، بدأ ماركوزه يفكّر كيف انتهى به الأمر في هذا الموقف. هل كان هو السبب؟ حظّ سيئ؟ هل هو القدر؟ هل هي تركيبته الجينية؟ ماذا عن شخصيته؟ ربما علاقات القوة في النظام الاقتصادي؟ أم أنها مزيج من كل ذلك؟

بدأت الشكوك تتساقط على رأس ماركوزه في طريق عودته إلى المنزل على دراجته الهوائية. فكّر ثم قال في سرّه: "عندما نكون أطفالًا، يعاملنا الجميع بلطف واهتمام، فهُم حريصون جدًا على عدم حصول أي مكروه لنا. عندما نتقدم في السن، تتغير الديناميكية، يبدأ الناس في معاملتنا على أننا أشياء يمكن التخلص منها، وبالإضافة إلى ذلك، علينا أن نقف في طابور لنصبح أشياء يمكن التخلص منها. لقد أُبعِدنا عن عائلاتنا وألقي بنا في الآلة الأزليّة التي يسمّونها 'سوق العمل'. لقد تم تحويلنا إلى سلعة بكل ما للكلمة من معنى".

___________

Postphilosophy.com

instagram.com/post.philosophy

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button