سنة 1995، واجهت أبي بمعضلة كبيرة. لم استطع حينها أن ألفظ كلمتين في الآن ذاته، لم أستطع أن أحرّك لساني فأصدر صوتين مختلفين في الثانية ذاتها.. هي هنيهة، واحدة، وثابتة كدائرة عنيدة في الفضاء، أردت فيها أن ينبت لي لسانين. مكثت أمام المرآة لساعات وحاولت، مرارًا وتكرارًا، لحظة تلو الأخرى، حركة خلف الأخرى، أركّز بصري على فمي، كيف لي أن أبوح مرّتين في اللحظة عينها. سنة 2004، جلست أمام آلة حاسوب، وشغّلت أغنية تلو الأخرى، غابت الشاشة وباتت سوداء، نام الحاسوب. نام، أي غفا، أي غطّ طويلا.. ومكث الصوت. نامت الآلة، وظلّ الصوت، لا يُلغي نوم الآلة صوتها، كما لا يُلغي النوم أنين الإنسان. وبينما اسودّت الشاشة وغفت، رأيت انعكاس وجهي وتذكرت الأيام الطوال أمام المراة. أيقظت الحاسوب، وشغّلت أغنيتين في آنٍ، ثم ثلاث وأربع… وسمعت الأصوات كلها مرة واحدة، هل أردت أن أكون آلة عام 1995؟

في العام نفسه، نشر جاك دريدا كتابه "حمى الأرشيف الفرويدي"، حيث جرت تقاطعات عدّة بين مفهوم الأرشيف والذاكرة الإنسانية، ولكن مقابل كل هذا، ظهر عنف أرشيفي، أيّ أرشيف انتقائي على أساس سلطوي واقتصادي وبنوي وسياسي. لكن الأرشفة، في الكثير من الأحيان، فعل مقصود وناتج عن رغبة دفينة في التصنيف والتخليد وانتقاء الخلود وعكسه. لكن الأرشفة أيضا، في يومنا هذا، وفي عصر الذكاء الاصطناعي، لا تؤرشف نفسها فقط، بل تؤرشفنا معها. أي، المؤرشِف يمسي مُؤرشَفًا. ويمسي أداة لهذا الآخر الكبير، بمعناه السايكولوجي الواسع. هذا الآخر الذي يعرف مسبقًا أذواقنا في العمارة والطعام، فيقترح علينا عمارات وملبوسات وأطعمة، والذي يعرف بصمات اليد والوجه، يؤرشفنا، ونحن، المُؤرشَفون ننسلخ عمّا كنا، وتطغى رغبة دفينة فينا كي نخضع لرغبة الآخر الكبير، أي الآلة، ينبعث الانكشاف العظيم أمام شاشة هاتف، أو حاسوب، أو خوارزميات ألفناها.

يأتي هذا الانكشاف أيضا نتيجة رغبة ساحقة في أن نكون خارج انسانيتنا، أي، أن نكون آخرَ خارجًا عنا، على سبيل المثال، أن نكون آلة. نصدر صوتين، أو أكثر، في الوقت نفسه. رغبة الصوتين ما هي إلا رغبة تتجه نحو كسر الأحاديات، لا بل نحو تهميش الثنائيات. تكون الآلة خارج كل هذه الاعتبارات، فالآلة غائبة وحاضرة، خالدة وفانية، قابلة للتجدّد والرجوع، قابلة لمحاكاة المستقبل ولانكشاف الماضي. وهي قابلة للتصنيف والتحديد، وسط كل زحام الضياع البشري الذي يحكمنا، وهي قابلة لفهم لغتنا، وتحويلها لنصّ أو صورة1. وهي قابلة للأخذ والردّ، والمزاح، والجدال، والإصرار.

مقابل هذه الرغبة الدفينة في أن نتحول لآلة، هناك خوف كبير من أن تحتلّنا الآلة، الأمر الذي انشغل به كثر. لا يعنيني احتلال الآلة، ولا يخيفني، بل يخيفني الخوف الكامن وراء كل هذا. وصلت ذروة هذا الخوف مع توفّر chatgpt مجانا للناس، ولكن أين يكمن المنبع الرئيس لهذا الهلع الدفين؟ أن نتحدث مع آلة؟ أن نتحدث مع آلة متاحة للردّ في شكل شبه فوري؟ أن نبوح  بكل ما يمكن أن ينبعث من لغة دون إسقاطات أو خوف أو تردد؟ في الواقع، لا يدلّ هذا الخوف إلا على الخوف الأكبر الكامن في انعدام التواصل مع البشر: أن يُمسي التواصل مع آلة ملسٌ أكثر من التواصل مع البشر. في الحقيقة لا تخيفني هيمنة الآلة، بل يخيفني خلافها، بل تخيفني استكانة اللغة البشرية، وانعدام التواصل.

لم تكشف كل هذه الإحداثيات المتقاطعة إلا تسطيح التواصل البشري، الذي ومع غزو الذكاء الاصطناعي بات شفيفًا لدرجة الذوبان. وحدها اللغة تنجو وتناجي وتستفيض. هي، حبل نجاة ظاهر وباطن وواضح، لا يتلكّأ بل يستبيح ويُستباح ويفيض سيلًا حتى بعد مخاض صعب. إن أبصرنا في عين اللغة، في فؤادها القلق والمحبّ رأينا اندثار الذكاء الاصطناعي الذي يذوب أمام قوة الكلام، أمام سيل المحسوس وراء الكلمات الغابرة والحاضرة والعاصفة والعليلة. تغلّ اللغة وتفكّك الخوارزميات، لا بل تعيد اكتشافها تحت قوة الاحتمالات والتركيبات اللامتناهية والتي تحمل في طياتها كل ما لم يُقال أمام وجه ألفناه، وقلناه أمام آلة غائبة عن الخطاب المُعتاد، وفي الحقيقة نحن من غبنا عن الخطاب نفسه.

إن عدنا إلى مفهوم الأرشيف في عصر الذكاء الاصطناعي، وكيف نحن أمسينا الأرشيف نفسه، يبقى السؤال الملحّ، أيننا من هذا الأرشيف؟ وكيف الولوج إلى تلك الملفّات المستحيلة؟ كيف نصنّف ونفرز حصائلنا وانتاجاتنا وذاكرتنا عبر الرموز واللغة، بعيدًا عن ميزة "انقر هنا لذكرى جديدة" 2، حيث تحضر عدة ذكريات في اليوم الواحد على كوكب الفايسبوك الأزرق، فأيّ تصنيف هذا الذي يفرض تعددية مهيمنة؟ أعود للذكرى الأولى، لا نستطيع أن نلفظ كلمتين في الآن ذاته، أعود للحظة الحالية، لا نستطيع أن نتذكر صورتين في الآن ذاته. تتجلّى اللغة أمامي، وصوت واحد يقول: وحدها اللغة تُنقذ أرشيفنا، وحدها اللغة تروّض الآلة.

____________________

1 Midjourney and DALL-E

2 Click here for a new memory

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button