يضع المستعمِر مسألة الهيمنة الثقافية في سلّم أولوياته، والتاريخ لا يبخل بالأمثلة ونماذج بسط مجتمع سيطرته على الآخَر. واستطاع من خلال هذه الاستراتيجية بسط سلطته على اليابسة بشكل أوسع مع تطوّر تقنيات الملاحة والنقل وسهولة الاتصال بمناطق العالم كافة. حتّى أن مبرّرات التوسع الأوروبي داخل القارة الأفريقية في القرن السادس عشر أتى في سياق الهيمنة الثقافية وخاصة مسألتي الدين والفولكلور. وبحلول القرن الثامن عشر، تبنى مفكّرون أوروبيون أفكار التقدم من البدائية إلى الزراعة إلى الصناعة فبرّر العديد منهم الاستعمار باعتباره إرساءًا للحضارة بدلا عن "الهمجيّة" وليس غزوًا.
ولأن الملابس وزينة الجسم تُشكّل جزءًا مهمًا من أدوات التواصل غير اللفظية، فإن الافتقار النسبي لكسوة الجسم كان من الأمور التي لاحظها المستكشفون باكراً عندما واجهوا الشعوب الأصلية في المناطق الاستوائية لأوّل مرة. خلال غزوة كولومبوس في القرن الخامس عشر وحتى الاستعمار البريطاني للهند في القرن التاسع عشر، كان الأوروبيون مهتمين بإسناد المعنى إلى حالات العري. فحمَل ارتداء الملابس اللائقة في الثقافات الغربية الكثير من المعاني لدرجة أصبح فيها ارتداء الملابس الهزيلة أو العري يتطلّب تفسيراً، وهو ما كان الدين يقدمه للعموم في أغلب الأحيان. أحدى الصور النمطية المعتادة عن "الآخر" بالنسبة للغرب وعالم الشمال هو "المتوحّش" العاري، بناءً على اعتقاد بأن الملابس هي دلالة على الانتماء إلى ثقافة ومجتمع متحضر، وأن غياب الملابس هو غياب الثقافة. في إنكلترا الفيكتورية، كان الجسد العاري مؤشراً محتملاً للانحلال الأخلاقي، والذي يتم تدجينه بارتداء الزيّ اللائق. كان أيّ كشف لأجزاء من الجسد من خلال ملابس غير لائقة يشكل خطرًا على الرّصانة والعفّة والنظام الاجتماعي. في "رحلة البيجل"، كتب تشارلز داروين عن اللامبالاة بالعري بين سكان تييرا ديل فويغو، الذين "لا يمكن للمرء أن يقنع نفسه أنهم مخلوقات مثله يسكنون نفس العالم". وهكذا اعتبر أولئك أن ما واجهوه في إفريقيا يمثّل حالة بدائية من الطبيعة، مما يبرر تفوقهم العرقي والثقافي، رغم الإعجاب المستمر لدى الغرب بجمال التماثيل اليونانية وتبنّيه جمليّاتَها. وميّز الأوروبيون بين العري المثالي في الفن وعري السكان الأصليين، والذي كان غير متحضّر ويدل على الدونية العرقية.
وللعري درجات ولكن تمّ تحديده في مرحلة مبكرة من العصر الحديث حسب تصنيفات الثقافات الغربية. قد تكون الأعضاء التناسلية أو الجزء السفلي من جسم الأشخاص البالغين مغطاة بالكامل، بينما يكون الجزء العلوي من الجسم مكشوفاً لدى الرجال كما النساء. ومع ذلك، في غياب مفهوم "العار" الغربي في ما يتعلق بالجسد، كان العري الكامل في الأماكن العامة لأغراض عمليّة أو احتفالية أمرًا شائعًا. قد يكون الأطفال حتى سن البلوغ وأحيانًا النساء حتى الزواج عاريات لأنه "ليس لديهنّ ما يخفينه".
في أواخر القرن التاسع عشر، كان العلماء البريطانيون بما في ذلك توماس هنري هكسلي يستخدمون صورًا عارية للسكان الأصليين قدمها المكتب الاستعماري البريطاني كدليل على نظريات العرق القائمة على التشريح المقارن. كما أصبح تصوير السكان الأصليين العراة شائعًا حتى بين الرحّالة والمبشّرين الذين استخدموا الرابط بين العري لدى السكان الأصليين والعلم لتبرير عرض الصور التي قد تصنف بخلاف ذلك على أنها فاحشة. وبالنتيجة، انتشر هذا النوع من الصور على نطاق واسع باعتبارها من الغرائب - وما زالت حتى يومنا هذا تستخدَم لنفس الهدف على الانترنت - ما أدّى إلى إرساء فكرة أن الشعوب المستعمَرة كانت مجموعات من المتوحّشين العراة.
إعادة الاستحواذ على العري
في المقابل، ظهرت فى تلك الفترة أعمال الاحتجاج بالتعرّي كأداة لإنهاء الاستعمار. هنا يجب أيضًا فهم كيفية عمل آلة الاستعمار. الاستعمار، الذي يُعرَّف بأنه مجموعة المواقف والقيم وطرق المعرفة وهياكل السلطة التي تدعمها المجتمعات الاستعماريّة الغربيّة باعتبارها معايير تعمل على تبرير وإدامة الهيمنة الغربية، وهو عملية أبويّة واستغلالية تقتلع ثقافات وهوية بلاد بأكملها. أما مناهضة الاستعمار والقضاء عليه، فيهدف إلى إنهاء الاستعمار من خلال وضع إطار نقدي يتحدّى التأثيرات المستمِرّة للاستعمار والإرث الاستعماري على جوانب مختلفة من المجتمع، بما في ذلك الثقافة والسياسة والاقتصاد وأنظمة المعرفة.
الاحتجاج بالتعرّي كان ممارسة اجتماعية وثقافية سائدة وأداء طقسيًا (لإطلاق لعنة تسبّب المرض وحتى الموت) في مناطق كثيرة على اتساع القارة الأفريقية قبل انتشار الاتصال الاستعماري والأديان المستوردة ومفهومها للعري باعتباره فحشًا. إبتداءً من أواخر القرن الثامن عشر، منعت الإدارات الاستعماريّة الانخراط في الاحتجاج بالتعرّي باعتباره ممارسة وثنية. واستمرّ هذا النهج على شكل قوانين دستورية في فترة ما بعد الاستقلال. لكن النساء قاومنَ القيود الدينية والثقافية المفروضة على العري واستعدن أداءهن الاحتجاجي كسلاح مضاد للضيق الاجتماعي والسياسي. في عام 1929، نزلت المئات من النساء بجنوب نيجيريا إلى الشوارع "عاريات الصدر" احتجاجاً على فرض الادارة الاستعمارية ارتداء حمّالة الصدر (bra) أثناء العمل في المزارع. إذ رأت النساء أن هذا القرار بمثابة بداية أغتصاب فعلي يتم تأطيره بشكل مجازي، ليحقّق للمشروع الكولونيالي استمراريته في التحكّم بأجسادهن كما فعل بالأرض. شاركت حوالي 25 ألف إمرأة في العصيان الذي استمرّ لثلاثة أشهر وأدّى في النهاية إلى شلّ الحياة اليومية بجنوب نيجيريا. وعندما تخوّفت الأدارة البريطانية من اتساع رقعة هذا التمرد الثوري إلى باقي المناطق، رضخت لمطالب النساء وسحبت القرار بشكل نهائي في جميع المستعمرات البريطانية في غرب إفريقيا. وفي عام 1990، خلعت النساء المشرّدات الغاضبات في سويتو بجنوب افريقيا ملابسهن عندما تحركت شرطة الأبارتيد لهدم أكواخهن في بلدة دوبسونفيل. وفي عام 1992، بدأت أمهات السّجناء السّياسيين الكينيات إضراباً عن الطعام وتجرّدن من ملابسهن في حديقة أوهورو (الحرية) في نيروبي، للمطالبة بالإفراج الفوري عن أبنائهن. وفي 8 يوليو 2002، احتلّت نحو 1000 امرأة شبه عارية أو عارية تماماً يتحدّرن من ستة مجتمعات في منطقة جنوب شرق نيجيريا الغنية بالنفط، محطة النفط الرئيسية لشركة شيفرون تكساكو. وكان احتجاجهن مرتبطاً بتلوث المياه والأراضي بسبب التسرّبات النفطية واشتعال الغاز. واتهمت النساء المعترضات الشركة بالاستغلال الفادح لشعوب المقاطعة والتوزيع غير الكافي للثروة التي تحصل عليها من النفط. وفي عام 2003، تجرّدت النساء الليبيريّات الراغبات في رؤية نهاية الحرب الأهلية من ملابسهن عندما توقفت المحادثات بين الرئيس تشارلز تايلور والجماعات المتمرّدة. وفي عام 2012، تجرّدت مجموعة نساء من ملابسهن أمام مركز الشرطة المركزي في كامبالا عاصمة أوغندا احتجاجًا على الاعتداء الجنسي الذي تعرّضت له المعارضة إنغريد توريناوي من قبل قوات الشرطة. وفي عام 2016، تجرد الطالبات في جامعة رودس في جنوب إفريقيا من ملابسهن احتجاجًا على العنف الجنسي في الحرم الجامعي.
القوة الكامنة في أجسادهنّ
لفهم أسباب وصم الاحتجاج بالتعرّي، يجب علينا أولاً أن نفهم كيف يُنظر إلى أجساد النساء. لقد انتقدت النسويّات على نطاق واسع الطرق التي يتم من خلالها مساواة أجساد النساء رمزياً بتوصيفات الوطن، الأم والأمّة. وتحمل هذه التوصيفات معها إشارات تعزّز الأدوار التقليدية الأساسية للمرأة، أي الإنجاب والرّعاية. وهذا بدوره يؤدي إلى الحاجة الأبوية لحماية هذا الدور في التركيبة المجتمعية. ومع ذلك، تأتي قائمة طويلة من التشريعات والمدونات الأخلاقية والممارسات والسلوكيات التي تريد في النهاية تحديد أشكال العري المقبولة للنساء ثم تسييس جسد الأنثى وإضفاء طابع جنسي عليه وتقديسه لدرجة أنه لم يعد ملكًا للمرأة بل للرجل. إن المفارقة هنا هي في إضفاء الطابع الجنسي على أنواع معينة من أجساد النساء من خلال الإعلانات المختلفة والأفلام والأغاني وما إلى ذلك لبيع كل شيء بما هو مقبول.
وعندما تستمرّ الرأسمالية بالاستفادة بشكل هائل من أجساد النساء، يبقى السؤال الأهم هو: لماذا يصبح العري فجأة "غير طبيعي" عندما تستخدمه النساء لمقاومة الاضطهاد والتمييز ومستويات العنف البغيضة التي تمارس على أجسادهن من قبل نفس الأشخاص الذين يزعمون أنهم مهتمون بالحفاظ على "نقائِها"؟ لا بد من إعادة تصوّر للشكل الحقيقي لمفهوم المقاومة والحرية من أجل الإجابة على هذا السؤال. بل ولا بد من التخلص من تحيّزاتنا وتصوّراتنا المكتسبة حول أجسادنا ومقاومة الطروحات التي تحرمنا من تقرير مصير الجسد والأرض.
الصورة: رسم لـ Collin Sekajugo