أعزاءنا القرّاء، العاديون جداً، حوارنا في هذا العدد هو عنكم وعنّا، العاديون جداً، عامة الناس المنتشرين في كلّ مكان وزمان، فاسمعوا! ننظر يميناً ويساراً فنرى الجماهير والأسياد يحاضرون بالأخلاق. تتدهور الأوضاع المعيشية، فيحدّثونك مجدداً عن الأخلاق والقيم. تستنفر أجهزة الدولة الإيديولوجية وتطلِق حملات الدفاع عن الشرف وشيطنة كل ما هو "مختلف" و"غريب" لإجهاض أي محاولة اعتراض. يرتفع صوت خجول يدعوهم للتمرّد، فتُرفع في وجهه العصا وتُكسَر عظامه بإسم الأخلاق والقيم. تنتصر العصا، نعود معاً إلى الحظيرة، نلتف حول القائد، نرفعه على الرأس والأكتاف، هيد أند شولدرز.

أعزاءنا القرّاء، حوارنا في هذا العدد مع رجل دعاكم للتحرّر، فصلبتموه. أحرِقَت كُتبه في ألمانيا النازية، فهرب إلى الولايات المتحدة لتُحرَق كتبه مجدداً هناك في أميركا الرأسمالية. وُضع تحت مراقبة مشددة من قبل مكتب التحقيقات الفدرالية ورُمي في السّجن حيث خاض معركته الأخيرة. مات سجيناً، مقهوراً، وحيداً.

فيلهلم رايخ، مؤلف "خطاب إلى الرجل الصغير" و"علم النفس الجماعي للفاشية" و"قتل المسيح" وصانع آلة غريبة قال أنها تعالج جميع أمراض البشر. اختار شقّ طريقه الخاص بعيداً عن أبَوَيه ماركس وفرويد ووضَعَ نظرية جديدة توفّق بينهما. روّج للجنس "before it was cool". أراد أن يحرر الجنس من قيود التكاثر ووظيفة تصنيع الفرد المطيع. طُرِد من جوقة المحللين النفسيين ومن الحزب الشيوعي. صاغ عبارة "الثورة الجنسية" وأطلقها في أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي قبل أن يولد جيل الهيبيز. رايخ، تلميذ فرويد الألمع، وصل إلى نيويورك في أغسطس 1939 ليبدأ مغامرة جديدة. أستاذ رايخ، أهلا وسهلاً بك. لماذا قررت أن تهاجر إلى أميركا؟

غلطة وندمان عليها. حصل ذلك قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية. كنت متفائلًا بأن أفكاري في دمج الجنس والسياسة ستلقى استحساناً هناك بعيداً عن أوروبا الفاشية. على الرغم من مذاهبها التطهيرية والإنجيلية الأبوكاليبتية، كانت أميركا منشغلة دائماً بالسكس والكورنفلكس. ومع ذلك، لم تنتشر فكرة التحرر الجنسي في الثقافة العامة إلا مع ظهور جيل ما بعد الحرب.

لو سمحت، هل يمكنك أن تلخّص للقرّاء فكرتك الرئيسية عن الفاشية والأسرة كنموذج أوّلي للمجتمع الفاشي؟

فلنبدأ من الفرد… مهما كان عمر الفرد أو جنسيته أو طبقته الإجتماعية، تظهر جلياً محوريّة السنوات الأربع أو الخمس الأولى من حياته. ففي هذه الفترة يحدث التداخل بين البنية الاجتماعية-الاقتصادية والبنية الجنسية، وتبدأ عملية إعادة إنتاج المجتمع، خاصة في الأسرة السلطوية. المؤسسات الدينية تواصل هذه الوظيفة في وقت لاحق. ولذلك يبرز اهتمام الدولة السلطوية الهائل بالعائلة السلطوية: الأسرة هي مصنع بنيتها وأيديولوجيتها. تقوم التربية الأُسريّة على خلق طفل خائف وخجول ومطيع، طفل يهاب السلطة، "صالح" حسب قيم هذا المجتمع، و"مبرمَج" ليتكيّف مع الإستبداد. هكذا، وفي سنّ مبكرة، تشلّ التربية الأسريّة القوى المتمرّدة لأن أيّ تمرّد مستقبلي سيكون محمّلاً بعبء القلق. باختصار، الهدف من القمع الجنسي هو إنتاج فرد يتكيّف مع النظام الاستبدادي ويخضع له رغم كل البؤس والانحطاط الذي يراه من حوله.

طيب، كُثُر تحدّثوا عن دور العائلة في بناء الشخصية المطيعة والملتزمة "كود" المجتمع الأخلاقي، ولكن لماذا ربطها بالبنية الجنسية؟

المسألة بسيطة ولكنها جوهرية. يغيّر التثبيط أوالكبت الجنسي بنية الفرد المقموع إقتصاديًا بطريقة تجعله يفكّر ويشعر ويتصرّف ضد مصالحه المادية الخاصة. وهنا أود أن أوضح الفرق بين القمع المادي والقمع الجنسي، إذ أن قمع رغبات الفرد المادية الأساسية (المأكل، والصحة، والأمان) له نتيجة مختلفة عن قمع إشباع الحاجات الجنسية. فقمع الحاجات المادية يحرّض، من حيث المبدأ، على تمرّد الفرد والدفاع عن وجوده، وهذا ما يحاول تحقيقه الماركسيون ومن يدور في فلكهم. أمّا قمع الرغبات الجنسية - بدوافع وتبريرات أخلاقية يضعها المجتمع - فيشلّ جميع أشكال تمرّد الفرد ضد أي نوع من القمع في هذا المجتمع. أي أن المجتمع المقموع جنسياً بشكل ممنهَج لا يستطيع أن ينتفض على الظلم المادي أو أي ظلم آخر. وهذا ما لم يأخذه الماركسيون في الحسبان. قد يقول البعض أن القمع الجنسي وُجِد كرادع ومن أجل دعم بناء أخلاقي في المجتمع كما تفعل الديانات، أو من أجل بناء حضارة وثقافة كما يزعم فرويد، ولكن الحقيقة هي أن هذا الرادع الذي يبدأ في العائلة له هدف واحد فقط، وهو بناء الشخصية التي تحافظ على النظام اجتماعي السلطوي. 

ونتيجة هذه التربية الأسرية، يصبح كبت التمرّد في حد ذاته فعلاً لاواعياً، حتى أنني لم أجد أيّ أثر لهذا الحسّ التمرّدي عند الفرد غير المنخرط سياسياً. والنتائج الأساسية لهذه العملية هي الخوف من الحرية (كما يقول صديقي أريك فروم)، وتمدّد المجتمع المحافظ والعقلية الرجعية. يُساند القمع الجنسي الرجعية السياسية ليس فقط من خلال هذه العملية التي تجعل الفرد سلبيًا وغير سياسي، ولكن أيضًا من خلال خلق مصلحة لدى الفرد في دعم النظام السلطوي بشكل فعّال. 

إذاً الأب يلعب الدور الأساسي في التربية الأسرية التي تحدّثت عنها؟

طبعاً… يعبّر الأب عن موقعه الاقتصادي في الدولة من خلال علاقته الأبوية مع أفراد الأسرة. يصبح الأب ممثّل الدولة السلطوية في الأسرة وأداتها. يعكس موقف الأب السلطوي دوره السياسي. نفس الدور الذي يلعبه المدير في عملية الإنتاج، يمارسه الأب في الأسرة. وهو بدوره يعيد إنتاج الخضوع للسلطة في أولاده. فكلّما زاد عجزُ الفرد من خلال هذه التربية، زاد تماهيه مع الزعيم، وأصبح أكثر تعلّقاً بصورة الأب.

وكيف يتحوّل هذا الفرد المقموع إلى داعم إلى للنظام الذي يقمعُه ويعمل ضدّ مصالحه المادية؟

يؤدي قمع الإشباع الجنسي إلى أنواع مختلفة من الإشباع البديل. على سبيل المثال، تتحوّل العدوانية الحميدة (الموجودة لدى جميع الحيوانات) إلى سادية وحشية تصبح بحدّ ذاتها عاملاً أساسيًا وعنصراً ضرورياً في التجييش الجماعي والحشد في الحروب الإمبريالية. بل أجزم أن التأثير النفسي الجماعي للعسكرة هو في الأساس تأثير شهواني تستغلّه الرجعية السياسية (المحافظة) بطريقة واعية للحشد خلف القائد وخيار الحرب. على سبيل المثال، سعت حكومة الولايات المتحدة الأميركية إلى تحفيز جنودها جنسياً ثم إحباط هذه الرغبات لإعدادهم نفسياً للحرب العالمية الأولى. فجندوا عاملات جذابات في مطابخ الجيش، ودعوا فنانات وراقصات إلى الثكنات بهدف تسخير طاقة الذكور الجنسية في ساحة المعركة وجعلهم أكثر وحشيّة.

ملفت ظهور نوع من الأفلام عُرفت بالـ Nazisploitation في ستينيات القرن الماضي (أي موجة التحرر الجنسي الأولى) وتتمحور قصصها حول التعذيب ذات الطابع الجنسي الذي كان يمارسه الضباط النازيون في الحرب. 

طبعاً، هذه الأفلام الرخيصة، لناحية الميزانية والمضمون، تستخدم الرغبات المكبوتة لدى الجمهور وتعمل على إشباعها صورياً، بواسطة الضابط النازي، من خلال مشاهد السادية الوحشية لتجعلها أمراً طبيعياً يبرّر الإنتقام من "الآخر" بطريقة سادية أيضاً. ومن الفيتيشية الى الفاشية، يتحوّل البشر إلى أكثر الكائنات وحشيّة. واستمرّت الأمور على هذا المنوال بفضل امبراطورية هوليوود وأخواتها التي زرعت الشهوانية والجنس الصوري في كل فيلم ومجلّة وفيديو كليب وبرنامج تلفزيوني. ولكن الهدف من كل ذلك ليس التحرّر وكسر التابوهات، بل تسخير هذه الطاقة الهائلة في الإستهلاك والعدوانية المجتمعية.

طيّب بعيداً عن أرض المعركة، كيف يؤثر هذا الكبت على عامة الناس في حياتهم العادية ويوجّه خياراتهم؟

يطمح الفرد الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا أن يميّز نفسه عن الآخرين في الطبقات الأدنى منه. فوضعُه الإقتصادي ليس أفضل من وضع العامل الأسوأ منه حالًا، لذلك يتّجه إلى تعويض ما ينقصه اقتصاديًا بالشعارات الأخلاقية التطهيرية. هذا التوجّه يجعله مرتبطاً بسلطة الدولة الأخلاقية المبنية على قمع الرغبات. هكذا يرتبط الفرد المنتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا بالطبقة الوسطى العليا (المحظيّون)، ليس من خلال تمتّعه بمكانتهم الاقتصادية، ولكن من خلال الانخراط الإيديولوجي معهم. 

مجموع هذه المواقف الأخلاقية يعبّر عنها في الأفكار، وليس السلوك، أفكار الشرف والواجب المنتشرة من حولنا من دون أي مضمون. لاحظ تأثير هاتين الكلمتين على الطبقة الوسطى الدنيا: الشرف والواجب، ولاحظ تكرارها في الأيديولوجيات الفاشية والعنصرية. ولكن، من الناحية العملية، الحياة اليومية للطبقة الوسطى تظهر سلوكًا معاكسًا للأفكار التي تروّج لها. في التجارة، القليل من عدم الأمانة هو جزء من "عدّة الشغل". الإحتيال، السرقة، الكذب، الإختلاس، البخل، هذه هي صفات صغار التجّار. كلّ ذلك يشير إلى التناقضات بين الصورة والممارسة. وهكذا تخترق الفاشية فئات العمال والموظفين من اتجاهين: أولاً، من خلال السلوك التمرّدي الفاسد عن طريق دفعهم إلى ممارسة الفساد الاقتصادي اليومي والمباشر، وثانياً، من خلال الفساد الإيديولوجي، أي الوعي الزائف. النتيجة هي أن هذه الفئات، حتى لو ظنّت أن فعلها هو ردّ فعل على المظلومية، هو في الحقيقة فعل يتناقض مع مصلحتها كطبقة. 

ما هو جوهر علم النفس الجماعي للفاشية؟ وإلى أين يصل في ذروته؟

الفاشية أيديولوجياً هي تمرّد مجتمع مريض حتى الموت، مريض جنسياً واقتصادياً، يعمل ضد مصلحته. الفاشية تمرُّد ضدّ خيار الحياة، ضد الخيار الصعب الذي من شأنه قلب الطاولة وما يعنيه ذلك على مستوى الحريات الجنسية والاقتصادية. ليس أمراً سهلاً أن تختار الإنخراط في ثورة حقيقة تغيّر الواقع بشكل تام. إن مجرد التفكير في هذه الحرية يجعل الفرد الرجعي يرتجف من الخوف. فكرة "الخروج عن الحاكم" تبعث فيه الرعب. في هذه اللحظة تعلو نداءات التحذير من "تفكك مؤسسات الدولة والمجتمع"، أن نخسر "أسلوب الحياة القديم"، "احذروا الفوضى"، "المجهول الذي يتربّص بنا". الفاشية ليست محصّلة "ثورة لم تحصل" فحسب، بل أقول هي أيضًا فعل إعادة إنتاج ظروف الإنتاج على جثة المجتمع. 

كلمة أخيرة عن الحب؟

العلاقات بين البشر نتيجة التلقين والتعليب والتأديب المستمر منذ الطفولة في البيت وفي المدرسة تؤدي في نهاية المطاف إلى علاقات مزيّفة مبنية على السيطرة على الآخر. عندما تزيّف العلاقات بين الأفراد إلى هذا الحدّ، نظرا للضغط الذي تمارسه عليه العادات والتقاليد، يفقد الفرد قدرته على الاتصال العفوي بالآخر، فيعيش عزلة تؤدي غالباً إلى تضخم في الذات. إن الحب بمعناه الحقيقي يتميّز بالعفوية والتلقائية، وهذا ما يفتقر إليه مجتمعنا. والحبّ هو حاجة الذات للآخر ورفضها للعزلة والحب بهذا المعنى نادر في مجتمعنا. فالإنسان يحب ذاته التي تضخمت إلى درجة لم تعد تعترف بمشروعية وجود الآخر.

إما أن تتقبّل التلقين، أو بعبارة أخرى، إما أن تكون مستبداً يمارس الاستبداد وإما أن يمارس عليك الاستبداد إلى أن تتّخذ العلاقات بين الأفراد شكلا عمودياً لا شكلا أفقياً. وبذلك تصبح السلطوية بوجهيها (السيطرة والخضوع) هي النمط العام المسيطر في المجتمع الأبوي بمختلف شرائحه، على مستوى الفكر والممارسة.

الإشكالية الرئيسية في علم النفس الجماعي تكمن في إيجاد طريقة لتنشيط عامة الناس أو "حزب الكنبة" الذين يميلون دائماً إلى "الهتاف" لصالح القوى الرجعية. ولكن، لو وُجّهت الطاقات النفسية الهائلة التي يفجّرها الناس خلال مشاهدتهم مباراة كرة قدم أو حفلاً موسيقياً، ووُضعت في خدمة حركة التحرير والحب، لن تقوى أي سلطة على قهرهم. كم من مسيح صلبتم؟ ألم يحن الوقت لكي تصلبوا الطغاة؟

أقول لأصدقاء وقرّاء مجلة رحلة، العاديون جداً، انضموا إلى اتحاد المنشقين عن قوى الأمر الواقع.

عاش!

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button