... وفي المَقلب الاَخر من النهار، وكون العَرض بالصُدفة لم يتوَقف، كان لا بدّ من المواصلة. أمورٌ بديهية لا تعلمك إياها المدرسة في منهج التربية المدنية لأسباب مجهولة، مثل ضرورة أن تخرج من المنزل وفي حقيبتك (جُزدانِك أختاه) القليلمن مُستح ضرات الإسعافات الأوليّة. نتكلم هنا عن "ظرف" بانادول، حبّة موتيليوم، بضعة مناديل، الكمّامة ضرورية جدّاً هذه الأيام وعلبة"كزاناكس". إن الإحتمالات غير المعقولة تجد لنفسها دائماً كُرسياً على طاولة حياتك اليومية. كل ما تعتبره ككائن عاقل من فئة المستحيل، يتضح أنه واردٌ في الحسبان أكثر من الأفكار الأليفة المنطقية التي تجول في ذهنك. يُغافلك العكر وتفجأة، ويحضر كضيف غير مدعوّ، له أنياب طويلة، مستعدّ لينهش عظامك.

أنت في بلاد تُشبه حلبة سباق وَعرة هدفهاالقضاء عليك. لكي تخرج سالماً تحتاج إلى الكثير من الحظ، قُدرة مُذهلة من اليقظة، وجرعات مقبولة من "كزاناكس" لتتجنّب البارانويا. لك أن تتصور وجود لُغم نووي هامد في العمود الفقري للعاصمة لتؤكد على كلامي. ما لن تتجرأ على تخيّله هو جلوسك في نهار صيفي مُشمس قرب المرفأ، تتلذذ بمشاهدتك المغيب ومسامرتك الأصدقاء، فيحدث زلزال مهول. تلتفت إلى اليمين فتتيقّن أنه انفجار ومن ثم تشعر لوَهلة أنك أصبحت في هيروشيما تُشاهد سقوط القنبلة فَترفع كاميرا تلفونك لتصوّر الحدث وتصيبك ارتدادات الصوّت فينفجر دماغك وتموت.

نوتا بيني: هذا الخيّالي هو واقعي مَحَض وهذاما حصل، للكثيرين. حوالي مئتي شهيد قُتلوا نيابةً عنّي وأكثر من ستة الاف روح انفَخَتت بسبب عامل تلحيم تلقى أمراً بأن يردم فجوّة في بوابة مخزن يحتوي على ألفي وسبعمائة وخمسين طنًا من النيترات تجنّباً للسرقة. لو حدثت السّرقة لما وقع كل هذا البلاء.

نعود إلى المستحيل. السارق جشعٌ بطبعه لا يشبع، فاقد الإرادة، مُحنّك، يخفي آثار جريمته ببراعة، يبلّط البحر، يسطو على أموال المودعين، يُفلس الدولة، ومُصنّف من قبل إتحاد المحللين النفسيين أنه ذو عادةٍ مَرضية، جنونية. فمن غير الطبيعي ألا يسرّق، إلا إذا (وهو الشرط الوحيد) كان صاحب المؤامرة الكُبرى ليختصر الطريق. لم يكن ذاك اليوم دَوري على الأرجح ولا أعرف إذا كنت ممتناً لذلك. لا أعرف كيف شعرت حينها ولا أعرف كيف أشعر الاَن. حَدَث ذات مرة أن نجَوتُ من المَوت لأنني هرطقت بنظر الجماهير بعد أن اعتكفت عن مشاركتهم هتاف: "انت البطريرك أيها البيك، أنت البطريرك أيها البيك!" ومنذ ذلك الحين، اعترتني البرودة وتحوّل الغد بالنسبة لي احتمال النهاية. الشهداء هم الشهداء، نقطة. قُتلوا وقَتلوا قلوب أحبّائهم ضربة واحدة. وعدا ذلك، كلّ الدموع التي ذُرفت سرعان ما جفّت، والوسادة لم تتوقف عن دوام العمل.

لا أخفي عليك، عندما حلّت أيام الحداد على شكل غيمةٍ سوداء ضبابية وأمطرت دموعاً، شعرُت قليلاً كأنني "ميرسو" الغريب، الرجل الذي كتبَ عنهُ "كامو". "ميرسو" الذي أحيل إلى المحاكمة لأنه لم يحضر جنازة والدته فقط لأنه دفن العالم بأسره في داخله. الموت سهواً، حدث تراجيدي موحش، لكن العادة تُقلل من وطأة الشجن. المسؤول عن محاكمتي غائب أصلاً، يُمكنك أن تجده حاضراً في الجنازة، في التشييع مبرئاً ذمته، لا أعرف. المُهم، ليس من قاضٍ بريء. فعوّضاً عن الارتماء في الشرائع تجده مُنغمساً في الشرائح، منها الستيك وأخرى الشيش طاووق. إنه امتياز نظام المافيات وفي الخلاصة، هو يريدك أن تُصدّق أن الفاعل مجهول والمفعول به (بهم) قتيل سينال تعويض موته من شركات التأمين.

كلّما ضاقت الدُنيا بكَ ذرعاً، خُذ نصيحتي وتذكر جملة "جو بيتشي" الشهيرة في فيلم "غوودفيلاز" :what can you do؟ فعلاً، ماذا أمكنني أن أفعل؟ لم أتناول الطعام ولم أتوقف عن التدخين، ماذا أيضاً عَساي أن أفعل؟ لقد حَضَر الصحافي الإستقصائي ولم أرد أن أسمع ترهاته. أنا مُنهك من بازار السياسة وكان لدّي موعد هام مع "غايلز تالز" في "النيويورك تايمز" لأتحدث معه عن تجربة "رحلة" في المقال-القصة ولم أكن لأفوّت اللقاء مهما كان الثمن. سأخبِرك بالتفاصيل وبكل ما جرى ولكن دعني أغتنم الفرصة وأنوّه بأمرٍمهم: أنا عندما أركب السيارة وأضع حزام الأمان، لا أفعلها محبّةً بالقانون، إنما لأخفف من احتمالات الموت. عندها أفتح المجال لذهني ليتخيّل أسوأ سيناريو ممكن والسبيل للخروج منه، مثل كيفية الركض في حال اعتراني الشّك بوجود حزام ناسف لابِدٍ بين الجموع. لذلك، عندما حزمتُ أمتعتي ووضّبتُ المستلزمات اللازمة، استبدلتُ "كزاناكس" بـ "سيروكزات" كوْنه المُخدّر الأقوى للقضاء على حالات الهلع القصوى والخوف من العلو. لقد كان موعداً مهماً، ولم أكن لأفوّته مهما كان الثمن. لم أكن جاهزاً تماماً وذهني كان مُشتتاً. إنها الآثار الجانبية للفاجعة، وهذا أمرٌ بديهيّ. فعلى سبيل المثال، ذلك الذي رأيته يلوح في الأفق، تلك النقطة السوداء التي اعتقدت أنها طائرتي القادمة، تبيّن أنها طائر الفينيق. بدا من تغريدته أنهُ مُصاب أيضاً، بجرِح أوديبي بالغ، سمعتهُ ينادي للأم الحنون ليجنح صوب أحضانها. حسناً، كانت هنالك فتاة بجانبي تقول "يلعن كل شي، كتير حُب" ليفتح صديقها ذراعيه ويضمها إلى صدره هامساً "كلن يعني كلّن".

آخ، كلّ ما أردته هو وصول الطائرة بسرعة يا أخي.

************

-         "مستر تالز"، أنت تعلم، وأنا أعلم أن التوقيت هذا غير موّفق. لكني نجوّت. أنا على قيد الحياة وكما تقولون هنا"the show must go on"

-         ماذا تريد أن تشرب؟

-         قهوة، إكسبريسو، إكسبريسو.

-         أنا أيضاً، لكن ديكاف. والاَن أخبرني، لقد سمِعت كلاماً غير موفقاً حيال"رحلة". أحدهم وصف كتابتكم بالغليظة، وأنكم لا تحترمون ضيوفكم. ماالأمر؟

-         هل تُصدق ترامب؟

-         كلا

-         فإذاً، لا تُصدق ما سمعت.

-         ولماذا؟

-         إسمح لي بالتكلم بالنيابة عنك. أنتَ، كصحافي مُخضرم، أمور عديدة تجعلك تنظر إلى"ترامب" كبهلواني مقيت، أبرزها أنه عملاق الخطاب الشعبوي التافه. إنه الحال مع صاحب الكلام عن "رحلة". هذا المَذرفَكَر لم يُقدّم حجّة عقلانية واحدة، كل ما في الأمر أنه أراد بشتيمته أن يحظى ببعض الاهتمام. هو لايستَحق أن نذكره هنا، في اجتماعنا هذا، "مستر تايلز".

-         ماذا عن الأخطاء الإملائية؟ أرى منها في نصوصكم صراحةً...

-         "مستر تايلز"، من السذاجة أن تنبّه عن الأخطاء بهذه الطريقة الجازمة! في النهاية كلنا غلطة أحدهم. اترك للأخطاء مساحة، ما الضير في ذلك؟

-         صحيح. وبدَوري، يجب أن أصارحك بالأمر، أنا مُعجب بهذه التجربة، لكنني، حقاً، تمنيت لو كتبتَ عن المظاهرة التي جرَت في ساحة الشهداء بعد وقوع الإنفجار. كنت أنتظرها منك،صدقاً، هل كنت مشغولاً بالمشاركة؟

-         تقصد إحتفالية المشانق؟

-         أجل أجل، تلك التي دعا إليها المنتفضون، كان بحوزتهم مشانق وما شابه...

-         كلا، لم أشارك، قطعاً لم أشارك.

-         هل أنتَ جاد؟ تبدو سلبياً، ما القضية هنا؟

-         إسمع، ما هذا الذي تشربه "مستر تايلز"؟ لا تُجاوب. "إكسبريسو ديكاف". ماذا يعني ذلك؟ طعمةُ القهوةِ فقط. قهوة خالية من مفعولها، قهوة بدون كافيين. دَعَك من صناعة الرغبة التي يستثمرها الرأسماليون في خلق منتجات كهذه، لكن، ألم تلاحظ أن المسائل الثقافية والسياسية برّمتها باتت ديكاف؟ عدّد معي (وقاطعني إن كنت مخطئاً) شكل بدون مضمون، صورة دون غاية، سايبر جنس بريء من الجنس، حياد بٍرسم الإستسلام، تحليلات مُبعثرة تُشبه رقص البانك وتميّع القضايا…فلنتوقّف. والاَن ثورة بدون ثوار. مشانق؟ أنت في مواجهة حادّة مع النظام فَما فائدة الاستعانة بالرّمز، في احتجاج مبُاشر مثل وجودك في الشارع؟ هذا يعني أنك أمام احتمالين: إما أنك مغفّل وإما جبان. وفي الحالتين، سأكون غائباً.

أعاد كرسيه إلى الوراء، وقَف بحزمٍ واقتربَ مني قليلاً. نظر إلى وّجهي، حَمَل علامة التعجب وباغتني بضربةٍ قاضية.

دختُ ودرتُ وتشقلبتُ حتى بتُ قريباً من حُفرةٍ كبيرة تتصاعد منها ألسنة من نار مع دخان كثيف وأصوات غريبة، غير مُخيفة، ممتزجة مع ضحكات عالية وأطراف حديث. إنه الجوّ الأبهى للمجون.

*********

-         الجوّ حارٌ هنا. ما هذا؟ اَااااع!

-         Hey، لا تًخف، ماذا تريد أن تشرب؟

ترددت قليلاً، تلعثمت. تصببت عرقاً، جذعت. لمتتوقف عبارة "إنه الشيطان، إنه الشيطان!" تتحرك وحدها على شفتي. كمن يسحب أفضل سمكة من شركٍ مليء بالأسماك كان عليّ انتقاء أفضل فكرة لديّ، ما يعني الاعتراف بأقل ذنب مُقترَف.

-         جعّة باردة...

-         يوّجد. أنظر، أنظر إليّ. لا تخف. هل تعلم أين أنتَ؟ أنت في الجحيم، وأؤكد لك، لن تشعر بالفرق.

-         وماذا في حق الجحيم أفعل هنا؟ هل السبب أنني لم أعلّق المشانق؟ هل كان علي أن أتظاهر بالعويل أثناء وقوع الإنفجار؟ هل الأمر متعلّق بتاريخ ولادتي؟ أقسّم أنني لستُ مسؤولاً عن بطاقة هوّيتي المزوّرة، إنها فعلة والد..(ي)

-         توّقف! ما حدَث قد حدّث. الموضوع انتهى، كل المواضيع انتهت. أنت هنا الاَن. المُستحيل ممكن، ألم تَقل هذا؟ إسمع، أنا أعرفك جيّداً. دعني أشرح: كنتَ تحت ناظري طيلة حياتك، أنت الموغل في التفاصيل، أنا أكمُن في داخلها. أنتَ الذي تنتشي في لعب الورق، أنا أجثم في طياته ملكاً في لعبتك المفضلة. كلنا غلطة أحد، صحيح، البعض يقتلهم تفجير، اَخرون يولدون زلّةَ. أنا، خطأ مُصطنع مقصود مُتعمّد، وَجدني فنان كاريكاتوري فاشل، فاقد النكتة، ليُضحك حبيبته. كل الذين لا يغفرون مكانهم هنا. لاشيء بطيء بعد الاَن، لا شيء سريع بعد الاَن، أعرف حساسيتك تجاه الوقت، فاسترخِ، ما عليك سوى أن تُخبرني، ما هي وصيتك؟

-         في البدء كانت الحياة والحياة بَدت جحيماً. شكراً على استقبالي، شكراً على هذه الجعّة. ليس بالمكان السيء هنا. وأخذ يتّضح أنه المكان الأنسب للنقاهة. ما عليّ من الاَن وصاعداً سوى الانصياع للمُطلق، الاختفاء بالذوبان، ما يعني التخلّي عن كلأمل حتى في التغيير. هذا يلائم طبعي الكسول وللصراحة، أنا متعب حقاً. لا أريد شيئاً ولا أريد أن يريدني أحد.

-         أنتَ تكذُب، إنني أسمع طنينُ أفكارك من هنا.

-         كل الذي يجب أن أقوله لم أقله، وبدل أن أعتني بحديقتي كما علّمني "فولتير" في كتاب التربية الوطنية، حرثتُها. كل الذين أحبهم ماتوا. كل الذين أحبّوني، غفوا. سهرت على منامهم، حرست أحلامهم وفي الصباح الباكر حملتُ نفسي وذهبت بعيداً. كلّما نطقت استعملت صيغة الماضي، وكلّما حدّقت في الغدّ اقتلعتُ عيناً وتنكّرت على شكل قرصان مخمور ضائع. تسمَع طنين أفكاري، ها؟ أريد أن أعلم ما هو النيترات. لماذا يُستعمل؟ كيف يُخلط؟ ماذا يعني؟ أريد أن أتفقد الشهداء الذين لن يغفروا، أليس مكانهم هنا؟ أريد أن أبصَق على وطن أصبح مُلتقى (Hub) صالة جنازة مفتوحة للأحياء. هذه روحي خُذها، ضعها على مقربة من النّار قليلاً، روحي باردة كثلاجة. لحظة، هذه الضُحكة أعرفها، صديقة حميمة مولعة بالأبراج، علّقت مرّة نجمة على خدّي لأنني أقبّل جيداً، ماذا تَفعل هنا؟ أنا ذاهب... وصيتي؟!! دوّن واحفرها على قبري: وغدٌ لا مبالٍ مرّ من هنا.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button