فمي غارق في اللعاب، فمي جاف من الكلام. فمي لم يعد كما كان: ثرثار كبير يشُق جملته في الاسترسال كالجرح الذي تحدثه السعلة في الحنجرة. فمي مُكمم. فمي باب موصود لمخارج الحروف. فمي الذي فقد قدرته على أن يكون فماً، أمرٌ يثير بي الهلع حقاً؛ أن أفقد قدرتي على أن أكون ما أكونه، أو ذلك الذي كنت عليه؟ لا أعلم. لا أعلم كيف أملأ فراغ هذه المساحة الفاصلة زمنياً، الأشد تعقيداً من تأثير الفاصلة في قصيدة مينيمالية، لأنني ربما وببساطة، أكمن فيه، وعندما تكون فأنت لا تنتبه. وها إني انتبهت ولكنني لم أستطع الرؤية. هي قطعة مفقودة مبهمة، وبغموضها، يشار إليها ولا تدرك. إنها حالة الفراغ. إنه ذاك المحصور بين مسارين. هو فمي الذي فقدته بينما كنت أمجّ سيجارةَ ظهيرةِ يوم أحد مشرق ممل، فاختفى، وتحوّل صدري الى إشارة سير حمراء. 

-توّقف! توقفت. 

-عُد!

العودة الى الوراء، فأكون. أخترق الخلوة، أُسلحِب خلسة، أسلك من جديد فلا يفوتني شيء. لكنه مسار منحرف عن الاَن، عن هنا، عن المُضارع. إنه ما نسمّيه- أنا وكريتيكال- "ما لا يُستعاد"، إنه: الوقوع في المجهول، اصطدام عمودي لتقاطعين، وصال غير مكتمل، الناقص بلام التعريف، وهو ككل شيء ممنوع من الصرف، حائط مسدود. أن أبتلع لساني بدلاً من أن يبتلعني. أن يبتلعني الصمت، فأخمد. أن أبقى ناظراً، وهنالك غشاوة وضباب، وكل عين لا تعرف التعريف مُصابة بالعمى. حالي كالذين تركوا المرايا واتجهوا نحو ظلالهم، والظلّ يتغير شكله مع كل طريق. والطريق هنا، مقطوعة. ثم تريد مني نصاً محبوكاً بلاغياً، فيه من اللغو الضمنّي ما يكفي ليخلّد في وجدان القرّاء ويجذب انتباه النقاد، لكني وصلت إلى هنا صدفة، أتراني ألهث؟ تقول هيا أسرع، لدينا قرّاء، هنالك نقاد، الوقت ينفذ! لكنني يا ابن العاهرة، أخرس ألا ترى؟ والصامت متقاعد عن الكتابة. على كلٍ، خذ.

كل شيء مغلق هنا. الكنائس، المنازل، القلوب. القرّاء، الكتابة، والنقاد. وأيضاً: الوطن، الله، (ذهنك الذي سيدلّك تلقائياً على العائلة)، العملة، البنك الدولي، البند السابع، ونصوص هذا العدد، في رحلة ماغ المشهورة بالنصوص ذات النهايات المفتوحة. الأهم: السؤال. وطبعاً كل أنواع الحلول.

يحل المساء، كل مساء، تضع كأساً وتدير التلفاز لتؤنس وحدتك: 

-"عشرات المحتجين قطعوا الطريق، بعضهم افترش الأرض مطلقين هتافات، منها "ثورة.. ثورة"، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية الصعبة"

- "سعر صرف الدولار في ارتفاع متصاعد، كما أن سعر صرفه في السوق السوداء ما زال يختلف من وقت لآخر وبين صراف وآخر، ومن مدينة إلى أخرى"

- "الصاروخ الصيني "التائه" يضرب موعدا مع الأرض صباح يوم الأحد"

- "الاحتلال الإسرائيلي يطرد سكان المنازل من منازلهم"

- "المواد الغذائية تنفذ من السوق، والأدوية مفقودة"

- "المستشفيات ذاهبة نحو تصعيد بسبب الوضع الاقتصادي المتردي وأزمة المحروقات تضرب من جديد"

هل غدوت وحيداً؟ أتمنى لك ذلك. حسناً، أطفئه لأستطرد فأراسلك.

الطريق المقطوعة \

تعني الوحدة.

وحيداً ولوحدك ولا أحد سوف يخلصك من قتامة هذه المتاهة. لا غودو، لا تباشير الخلاص ولا من يحزنون. لا أحد يدعوك لزيارته. وأنت لا تنتظر دعوة أحد. المخيلة معطلّة غير قادرة على رسم جسر. فإذن، ما يكمن هناك ليس من شأنك اطلاقاً، فاجلس عاقلاً ولا تتدخل فيما لا يعنيك. أطلب كأساً واترك الفاتورة عليّ، سأتكفل بها لاحقاً عندما أصل، إن وصلت. وحتى ذلك الحين، انسَ كل التصوّرات الأفلاطونية الباهتة، المواعظ الفاترة المهذبة، التي ترفع رأسها متفاخرة بأنها الصراط المستقيم، يعني الأفكار الموصوفة بأنها سامية، مثل التجاوزية وما شابه، هذه المصطلحات المسماة بالترانسندنتالية، ارمها في مرحاض "مارسيل دوشامب"" ولتأخذ طريقها إلى الجحيم. إذا لم تكتب وصيتك بعد فلا بأس بذلك، لكن لا تنسَ أننا، كلانا في الجحيم يا صاح، كلانا في الجحيم يا أختاه. هذا تصريح جمهوري، مرسوم دستوري، لكَ من مجازه أن تشمّ رائحة الحريق. لك أن تتيقن من نيرانه، أن الحلول مقطوعة، عالقة في المنتصف، واقفة بين بداية تبدو نهاية ونهاية تكاد تشبه البداية، كأنها على حاجز تفتيش وجودي، تشبهني، تشبه المسافة التي تضعينها في رسائلك بين واو العطف والكلمة المعطوفة؛ هو الخطأ، هو الحل المقطوع، هو ركود الكينونة الذي يسكنني في تلك المساحة الفاصلة، هو صوتك كل ما يربطني في هذا العالم يا بايبي. 

وفّر طاقتك التجاوزية واستعملها لحاضر قابل للعيش، لواقع أقل وحشة. لا أحد هنا يسمع، لا أحد هنا يقرأ. لا داعي لأن تكتب وصيتك أو شيئاً آخر. المتلّقي غائب والمرسَل في إجازة والمؤلف مات. الطريق إليهم مقطوعة، طريقهم مقطوعة. أحياناً يخلعون الكفن، فيستنسخون أسلوباً، أو يغنون بصوت غيرهم فتفضحهم الطبقة، وعند الويك آند يدعون إلى إشعال ثورة، لكن سرعان ما تنقطع أنفاسهم ويهمدون. ثمن الكلمة باهظ، لا أحد يريد تكلّفه. من يقول يُدفن حيّاً، وما يجب أن يُقال لا يُقال، لأنّ القائل يحتاج إلى المَشي والترحال وليس الجلوس، وأنا لابِدٌ على الرصيف ليلاً نهاراً أراقب، أشاهد، أترقب، ولم أرَ أحداً بعد. أسمع الأخبار وأعلم في سرّي أن كل طوشة هذا الإفصاح ما هي سوى عمليات تجميل، أو شحذ انتباه، أو إطار إضافي مشتعل لقطع الطريق وتمجيد الكسل بالذرائع فأتذكر جملة أسماء عزايزة "هل يحزن الشعراء لضرورة شعريّة؟ إذن، لماذا تبدو نصوصهم أشدّ حزناً منهم" وأمدّ إصبعي الوسطى بوجه الجميع. لك أيها الناقد حصتك أيضاً، أين أنت يا ترى وماذا تفعل؟ أين تبيت هذه الليلة ولماذا تبدو لي كمزحة مؤجلة، مثل طفلين يلعبان الغميضة، يعمدان إلى قطع الطريق على بعضهما وأولّ من يصفع الحائط يربح؟ التجريب ممكن أن يعني الصامت، أو الصارخ، آكل لحوم الرداءة أو ضارب مولوتوف في عرض النسق، وهو بعيد كل البعد عن الإنشاء، والسائد، والسهولة، ألم تفهم بعد؟

إنها مشكلة فهم منذ البداية، هي متلازمة إنسانية أولاً، تنضب على نفسها، تنعزل، وتكشّر عن أنيابها حينما تتحوّل إلى معضلة. منذ العصر الهيليني حتى العصر النيهيلي وتاريخ الموضوعات يدور في الحلقة التالية: حجة، حجة مضادة وللحالمين أن يتخيلوا توليفة.
طريق تقابلها طريق مضادة على أمل بأوتوستراد مفتوح (لا يلتزمه جهاد العرب). تَك تَك تَك. إلا أن الحالمين يعلقون بزحمة الكوابيس، بمزاج شبيه بتحوّل الفانتازم الى تروما، لأن القطارات طوشاء لم تحسب لسككها حساباً، لم تضع قواعد للغتها، إنما بقيت بهذيانها المفرط تسير وفقاً لما تمليه عليها قوّة دفعها، قاطعةً الطريق أمام كل انعطاف مسلكي آخر. قواعد اللغة شأن تقني بحت مثل تعبيد الطريق، والذي يعني بدوره تقديراً للوجهة المقصودة، كون إغفال أهمية الوجهة يعني احتقارها، بالتالي قطع الطريق أمامها. من خبرتي الشخصية يمكن أن أخبرك عن الانشطار الترانسندنتالي الذي حدث، أو بالأحرى كيف تشوّه تصوّري (كإرادة وامتثال) عن مُستقبلي وتغيّرت قصديّته، لأنّ الطريق لم تكن معبدّة بل أعاقها وجود بقرة فيما كنت متوجهاً في التاكسي إلى كلية الفلسفة (الجامعة اللبنانية-الفرع الثالث). بقرة ضخمة بحجم غرفة، يحوم فوقها الذباب، تجتر ما تيسّر لها من لحوم جثث ونفايات، قطعت الطريق أمام دروس هيغل، وكانط وربيع الزين، عفواً، أرسطوطاليس. بقرة حلّوم، لونها أبيض وأسود، تشبه لوحة غلاف البينك فلويد “Atom heart mother”، فما كان مني إلا أن أخطو، مثل حركة التاريخ، بطريقٍ مضادة وأتخلّى عن أحلامي بالسباحة في نهرٍ من القهوة بعد أن هَزَم وجود البقرة وجودي. وبين حاضري وماضيّ طريق مقطوعة، إذ ما زلت عندما أجوب في سيارتي المُحرتَقة تلك الطريق، أشعر بشيء أقرب إلى تراجيديا الإغريق، متمتماً والعياذ بالله، بشتائم خارقة في الشكل، فلسفية في العمق. تلك البقرة جعلتني حزيناً وبائساً مثل لحن بيزنطي، لآخر قلب يطوف من قعر آخر كهف، بعد وقوع القنبلة الذرية يا أمي. على "كولِّن"، مشكلة الفهم أبعد من سوء التفاهم، إنها سوء فهم، مثل التقاء غاية العالم (اللامعقول) وغاية المرء (المعقول)، وهو التشظي أو العبث، طريقان متقاطعان لا يلتقيان، هذا ما أردت قوله. وإذا بدت فكرةً فضفاضة، لكني لم أستطع إلا أن أنوّه وأتفوّه بها ولو بفقرة مبعثرة، علها تفتح الطريق أمام معنى جديد للطريق المقطوعة وهو الخيبة.

وإذا كانت الوحدة بتجلّيها الثقافي والذاتي، هي المعنى الأول للطريق المقطوعة، ومن ثم أتى مقطع كلمة على "كولن"- وهي بالعلامة تعني على كلٍ- للتوضيح أن الوجود بذاته هو طريق مقطوعة حيث لا سبيل غير اللغة للجم الفهم وضبطه، فإن الخيبة مرادف الطريق المقطوعة لكل ما هو سياسي.

بدأ الأمر بلوحة قبيحة عنوانها سايكس بيكو، يبجلّها الغرب ويحفظها في متاحفه الفنيّة. هي خريطة خربشها ناسك أراد خوض غمار السياسة لكنه يخاف الاستمناء، فأتت النتيجة مثله، مُحافظة. والتحفظ هو كل ما ليس مطاطاً، إنما تعليب وضب وتعتيق لنتيجة تسحر الانفاس. في الحالة عندنا خنق للأوكسيجين في علبة سردين. تأصيل للثبات بنصوص جلجامشية تقدس التقوقع. وهذه قضية بسيكولوجية مبرهنة: خصي الاستمناء يجلب الخيبة، ليس بالضرورة للمعتكف عنه بل لمحيطه، حيث بتضخم غدده يستشرس، فيكرّس نفسه مركزاً صافياً متقوقعاً، ويقصي محيطه عن محيطهم. أراد أن تكون الطريق مقطوعة بالفطرة. أرادوا أن يقطعوا الطريق عن كل من لا يشبههم. أرادوا التحلّي بإرادة "البقرة دولّي": مصنع تكرير لأزمات الماضي والحاضر والمستقبل والنخب والنزاعات والجداول والمديونية والعائلات المتغطرسة والإرث الموروث أباً عن جد والعمامة ومجد لبنان والكهرباء والمياه والصوّر الشعرية والتراكيب اللغوية ونوستالجيا الحمراء الثورية والانفجارات والضجر والملل والسجائر الوطنية العفنة في استنساخ لا تنتهي صيرورته. 

إلا أن الخارج عن الصيرورة هو الغريب. المختلس. اللامنتمي. وهو نادر ومفقود. والمصطلح الأدق: مشاكس والتعريف به يعني: من شق طريقه وحده. وبالعاميّة من راح برحلةٍ. يمكن الإشارة اليه بالتالي: هو ذاك الذي جلس في المقعد الخلفي في الصف، الذي شرد وسرح في يقظته، لم يكترث بالحركة أمامه، فصنفته عنجهية الأكاديميا بألا أمام له بل طريقاً مسدودة. لكن الأكاديميا لم تفتح الطريق بجرافة، إنما دافعت عن إقفالها بمخالب مسنونة، وهذه ليست بصدمة إنما خيبة تتمثل في عدم القدرة على توضيح أنه ليس لي ثأرٌ مع الجامعة ولو انها أوقعتني في دين مهول بل ثأري هو مع البقرة. خيبة من إسقاطات المنهج الذي يراني كرقم في معادلة رياضية قابلة للتنفيذ أينما كان وفي كل مكان، دون الإصغاء إلى ذاك الذي تركته الأكاديميا بأحكامها وحيداً، أو إعطائه مجالاً للتبرير، هو الذي يشبه الحدث- بالمعنى الفلسفي- فلتة شوط، بينغ بانغ، حيث باختلاله يخلق طريقاً. خيبة من العجز على إحداث أي تغيير أصيل غير مستورد ومبتذل يأتي مع ضريبة إضافية كبضاعة الأنتيكا التي تغزو السوق. 

الطريق المقطوعة كذلك اليد. المئة ألف ليرة تمثل أكبر ورقة للعملة اللبنانية.

- مرحبا يا خال! أريد علبتي سيدرز، كيلو بنّ وكيس من رقائق البطاطس، هاتها، الموجودة خلفك إذا أمكن.

تنتظره أن يحاسبك، تمد يدك، تفتح كفّك لتستقبل ولو ما تيسر من الفكّة. أنت على علم مسبق أن الغلاء فاحش والأسعار تفوق الخيال، لكنها المغامرة وأنت في خضمها، وإذا به يطالبك بمئة ألف أخرى ليجعل الحساب قابلاً للتنفيذ.

- ولك خرا عليك!

كيف بحق الفاك- والمدقق كونان يوافقني باستعمال الفاك هنا نسبةً للسياق- أن تمارس الطبقة العاملة أسلوب الأوليغارشية أو الموافقة على الغوص فيه؟

ضب يَدك في جيبك أو اتركها مع من تحب، حتى جيبك وإن كان مليئاً بات فارغاً، ولو كان له فمٌ ليخبرعن الطريق لكان ردد مطلع "بيكيت" الشهير:

"ما العمل؟ 

لا شيء لفعله.

حسنا إذاً ".
حسناً إذاً، الطريق مسدودة بالكامل، من كافة الجهات، في الثقافة والفهم والسياسة، فاختفى فمي نهار أحد مشرق ممل، حيث الله يأخذ عطلته، غرقت مثله في الصمت، وأظن أننا متعادلان. أعتقد أنها فرصة جيدة أن تكون الطريق مقطوعة، هنالك هاوية كبيرة تنتظر من يطرق الباب.


(ملاحظة: الطريق إلى فيلسوف رحلة مهدي عساف مقطوع، الرجاء لمن يتواصل معه إبلاغه بشوقنا إليه)

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button