قبل 15 عاماً، اخترع المدوّن الأميركي كريس ميسينا "الهاشتاغ". في 23 آب/أغسطس 2007، ضرَبَ الجوع معدته ولم يجد شيئًا في الثلاجة يأكله. ولم يطلب دليفري مع أنه كان غارقًا في التفكير برمز الهاش (#)، بعد يوم طويل من العراك مع 8 ساعات عمل وساعتَي تنقّل وعضعضة مثلث بيتزا مقرمد وتلمّظ مرارة البلاك كوفي الباردة... وحرب لا هوادة فيها لإثبات ذاته وإعلاء شأنه.

فتح خزانة المونة في مطبخه فوجد أكياسّا صفراء من شوربة ماجي المليئة بحروف الأبجدية فسال لُعابه. وبلا تردّد مزّقها وطبخ محتوياتها.

وعلى المائدة، سكب كريس الشوربة فانزلقت الحروف إلى الصحن وجلس ينتظر حرارتها تفتر ودورانها الراقص يهدأ. فجأة، وقع نظره على هاشاتٍ # تسرح بين الحروف.

عموماً، # هو إشارة موسيقية لرفع النغمة نصف صوت. وفي ناحية كريس من العالم، هو رمز للأرقام. ولكن، ما الذي جاء به إلى شوربة "ماجي الأبجدية"؟

إنه سحر الحكايات الذي خصّب خيال كريس بجرعة كانت كافية لينجح في ابتداع الهاشتاغ الذي نستهلكه ويستهلكنا منذ ذلك التاريخ، أي منذ 15 سنة. فقد رأى الحروف تتوجّه في شكل مجموعاتٍ أعدادها مختلفة، أخذت كل مجموعة منها ترتصف على يسار كل هاش تصادفه في الصحن، كأنها تستعدّ لرقص الدبكة. فامتلأ سطح مَرَق الشوربة بسلاسل متفاوتة الطول تبدأ من اليسار ب # تليه حروف طافية يلتصق بعضها ببعض، كأنها كلمات تكتب نفسَها بنفسِها.

لمعت مخيّلة كريس المخصّبة بسحر الحكاية فأطلق على كل سلسلة اسم هاشتاغ وما لبث أن طلع من هذا المشهد بأول هاشتاغ في تاريخنا وهو barcamp# وأطلقه عبر تويتر. ثم كافأ نفسه بالتهام طنجرة شوربة الابجدية اللذيذة، بينما كان الهاشتاغ ينتشر سريعًا في شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية.

حققت تلك الأداة هدفها في تصنيف وترتيب المحتويات المختلفة المنشورة، وفي الدعوة إلى التفاعل مع القضايا المطروحة والمبوّبة كل تحت هاشتاغه. وبالفعل، إذا ضغطت على أي وسم أزرق، تطالعك "كل" المنشورات المتّصلة بالقضية إياها.

وتكمن المشكلة الأولى في ذلك "الكل" الوفير. فعلى سبيل المثال، هاشتاغات مثل #فلسطين و#العراق و#جرائم_حرب و#حياة_السود_مهمة و#منى_زكي و#الطفل_ريان و#تسونامي و#سوريا و#نورد_ستريم و#تونس و#الزواج_المدني_الاختياري و#أنا_أيضًا… وغيرها الكثير… ترمز إلى مواضيع وقضايا بعضها ساخن جدًا ومتأزّم… فما الذي نحصل عليه عند الضغط على أحدها؟ نحصل على كل شيء كُتب عن القضية إياها، سواء أكان رأيًا صائبًا عند جماعة وخائبًا عند جماعة أخرى، أم تفاهة مثل "هه"، أم تهديدًا ووعيدًا، أم قصيدة، أم "يا ظافر وينك مختفي"، أم شتائم، أم وصفات طبية... مع كل أشكال الإيموجي والجِيفْز والميمز. وكلها تكون ممهورة بالهاشتاغ ذي الصلة بالموضوع الساخن، بسبب وبلا سبب. فإذا بنا داخل "مول" شاسع، فيه ناس يبيعون على حساب ناس وقضايا.

لطالما سعّر الهاشتاغ المنافسات خصوصًا بين المشاهير، واجتذب الهاشتاغ الترندينغ (الرائج) كل أنواع الباعة الذين يبسطون بضاعتهم وينادون عليها، فنرى مثلًا #عشبة_تفتك_بالسكّري جنب #أنقذوا_حي_الشيخ_الجرّاح.

بالطبع، الفضاء الرقمي متاح للجميع ولا غرابة في أي شيء يطالعنا منه. لكن هذه المساكنة بين جدّية "القضية" وهزل اللامبالي وطمع "البائع"، تحد من قدرة الهاشتاغ على التصنيف وعلى احتكار القضية وحصر مناقشتها، فهذه (القدرة) تتلاشى بمجرّد أن نتخيّل كم هاشتاغ ينتجها يوميًا ملايين البشر، من العامّة والمؤثّرين، فضلا عن تطبيقات تفريخ الهاشتاغات، وناهيكم بالسهولة المتناهية على أي كان لإنتاجها في أي وقت وأي مناسبة وأي موضوع… وكيفما اتّفق. حتى أننا بتنا نرى هاشتاغات مؤلّفة من أبيات شعرية كاملة، أو من إحدى الجُمل في نص المنشور، يراها كاتبه تليق به كوسم يميّزها، حتى ولو كان النص مؤلفًا من تلك الجملة فقط. 

كأن هؤلاء الذين يستخدمون الهاشتاغ بهذه الطريقة، يبحثون عن وسيلة لإثبات الذات وإعلاء الشأن، من خلال أولًا التعبير عما يجول في الخاطر بواسطة منشور معمّم، وثانيًا بتوقيعه ببصمة خاصة علّها تصبح عميمة هي الأخرى، يومّا ما… إذا كان لديه نيّةُ الانتشار أصلًا ومعرفةٌ بآلياته.

ومن يستهلك تلك الهاشتاغات الخاصة؟ أصحابها ولفيف من أصحابهم ولكنها تبقى وتدوم في الفضاء الرقمي وتُحتسب ركامًا.

ومما سبق، يصبح لدينا فكرة عن العدد الهائل للهاشتاغات في الفضاء الرقمي. عدد يزداد هوله مع تزايده المطّرد يوميًا، لتليه ملاحظة ذات صلة من جدّي الفلاح الذي كان يقول: المرعى الوفير يعمي قلب الدابة، فما بالكم لو كانت الدابة بشرّا نهمين وشرهين.

المشكلة الثانية ترتبط بعمودية فضاء المنشورات. تلك الهوّة النازلة أمامك على الشاشة لا قعر لها. ولكي تتابع ما فيها قد تخور إصبعك السبّابة من التعب، كما أن جفنيك لا يتوقفان عن الرف.

وهذا ليس وصفًا لتصرّف مدمن سوشال ميديا، بل تصوّرٌ لسلوك كل من يبحث عن حقيقة ما أو يريد استخلاص أي شيء نُشر حول قضية أو اطروحة معيّنة في منصات تتيح التقاء الجد بالهزل والعلم بالجهل والخبر اليقين بالفايك نيوز (يا ترى ما الصحيح؟)

حتى الآن لم أقدّم شيئًا جديدًا لا نعرفه جميعًا لكن درجات إقرارنا بصحته متفاوتة. ذلك أن الريبة باتت تنخر كل شيء في حياة البشر. فَعَلامََ نستقر؟ على معلومة في واشنطن بوست (ميديا تقليدية) أو على معلومة أفاد بها مدوّن ناشط، مناصرًا كان أم مناهضًا لمشروع ما؟ على موقع طبي "أهلٍ للثقة" مع أنه يؤازر صنّاع الأدوية الجشعين أو على مواقع الطب البديل؟.. على ما صرّح به بوش الأبن أو على رأي من ضربه بالحذاء (وثأر لكثيرين) ليتبيّن لاحقّا أنه طاغية مثل بوش يحرم أمًا من ولدها (شرعًا)؟ على كلام شخص خلف مكتب أو على أفعال ملموسة؟

أمسينا نعيش في الريبة ونعاشرها من دون أن نتصرّف بارتياب… صارت الريبة لنا عادة، بمجرّد أن ننظر إليها عبر عدسة الهاشتاغ الذي خفّف عنّا مفاعيلها الخطيرة، فغدونا واثقين تمامًا من أن #روسيا سيقابله حتمًا #أوكرانيا، حتى قبل نشوب الحرب الأخيرة، وأن لكليهما مناصرين متعنّين بسبب عجزهم عن "الانفتاح على الآخر لمجرّد الاطلاع" أو عجزهم عن مناهضة حكّامهم، وأيضًا بسبب ارتياحهم لمقولة "الأمر الذي تعرفه أفضل من ذلك الذي تجهله"... وغدونا واثقين أيضًا من أن الباعة المستفيدين من الترندينغ هم أنفسهم في كلا الجهتين. وهو الأمر الذي جعلنا نكتفي بما نعرفه (وهو كثير في المناسبة) لكنه ناقص، ليس لأننا لا نريد أن نعرف المزيد، بل لأننا لم نعد نقوى على طلب المزيد ولم نعد نعرف أين نجده. فهل نجده في تأثيرات تربيتنا أو وصايا الوالدَين أو في كلام معلمة المدرسة أو في سلوك الأخ الأكبر الحزبي أو في حماسة المراهقة أو نستلهمه من رجل دين أو نعثر عليه تحت #المعرفة_للجميع؟

ننكر جميعًا هذه الريبة الدفينة ونكتفي بحالنا كما هي. ولا نترك مجالًا لأي اجتهاد أو محاولة تغيير. ولذا، نرانا نمتشق # هذا ونقذف به "التانِيين" مهما كانت القضية مهمة أو تافهة. وبدورهم، يخالنا "التانيين" أنفسهم أننا نصنع من هاشتاغاتنا متاريس نطلق من خلفها صيحات الحرب أو قهقهات الهزء أو تمتمات الشماتة، مكشرين عن أسناننا، مرتدين البدلات المرقّطة… بينما يكون فعليًا كل المتحاربين برؤوس الأصابع، منبسطين على كنبة، جالسين على كرسي المرحاض، يتنعّمون بمجة سيكارة مع رشفة القهوة أو كأس ويسكي، أو متقلّبين في الفراش... وغالبّا يكونون على مسافات بعيدة، فعلية أو نفسية، من الحدث، من المأساة، أو من المهزلة.

كأن الأرض وما عليها لا تظهر إلاّ لمن هم على موعد مع الكوارث الطبيعية والبشرية… وفي الأحوال الأخرى تكتفي بحضورها "أونلاين".

لقد جرّدنا كريس ميسينا من أسلحتنا، الفعلي منها والمعنوي، وترك لنا هذا # لنحتفل بعجزنا عن النضال والتأثير وقلب الموازين… تحت #غزة مثلًا، ينضوي المقاوم والعميل والفاسد والولهان والمطيع والمعلمة والتلميذ والرافض والغني والفقير والذكوري والأخوة والأعداء والمغتصب والضحية والجلّاد... (كوجهات نظر)... لأن كلّهم مع القضية. ولا ننسَ الباعة أيضًا. استخدام ذلك الهاشتاغ ليس حكرًا على أحد… فقد صرنا #كلنا_في_نفس_الخندق الرقمي.

والحقيقة نفسها؟ احتكرها الهاشتاغ.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button