ليس الاقتران بين الاستعمار والاغتراب بظاهرةٍ جديدة في العالم بل عمرها عمر الاستعمار، ففي كتابه "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء"، يناقش فرانز فانون تأثير الاستعمار على الشعوب المستعمَرة، بما في ذلك من تجريدٍ لهويّة هؤلاء وثقافتهم وحتى الشعور بوجودهم. وهذا يتركهم في حالةٍ من الغربة العميقة، غير أنّ فانون لم يكتفِ بمناقشة التأثير بل تعدّى ذلك والجًا في الأساليب التي اتبعها الاستعمار بقصد قتل شعور الناس بحس المجتمع والقرابة والانتماء لبعضهم البعض (تشتّت العرق الأسود كما وصفه)، وبالتالي فإن إرث الاستعمار نفسياً في أبعاده يؤدي إلى اغتراب الشعب المستعمَر.

لعل الوثيقة الوحيدة التي يمكن أن تضع أمامنا معاناة بلاد إفريقيا فترة الاستعمار هي ما تركه أدب تلك المرحلة الراهنة، ولعلّ أسطع مثال على ذلك هو قصيدة "الاغتراب" للشاعر والناشط السياسي الأنغولي أنطونيو جاسينتو (1924-1991)، هذه القصيدة التي يتّضح لقارئها أنّها لا تحمل فكرةً معيّنة واضحة بقدر ما تضع أمامه شعرية قابلة للتأويل وذلك لتشابهها - حسب جاسينتو - بالعالم العادي شأنها شأن الريح والبحر والأماكن المختلفة. 

بيد أنّ الوقوف أمامها لفترةٍ من الوقت تضعنا أمام نصّ يحاكي شعب أنغولا بكامله فترة الاستعمار البرتغالي للبلاد وتذكّر بمعاناته من الفقر والعبودية والاستغلال خلال ذلك الوقت، تماماً حين يقول " قصيدتي تجري في الشوارع/على رأسها قطعة قماشٍ آسنةٍ/عارضةً نفسها/"اسقمري، سردين، رنكة"، وهذا ما يبرّر لجوء النص للوصول إلى عقول الأشخاص العاديين باستخدام التصاوير الواقعية المختلفة وبعض المفردات العاميّة الأنغوليّة التي، حسبما يرد، أغان شعبيّة لسكان تلك البلاد.

يبدأ الاغتراب في النص من عنوانه الذي شاء جاسينتو تركه على حاله Poema da alienação. ويمضي داخله من خلال تصوير جاسينتو واقع شعبه الذي يعيش عالمًا بعيدًا عن الواقع جراء التصرفات العنصرية والاستعمارية التي نراها مطبّقة في ممارسات الرق والعبودية (الصيد كمهنة للأطفال الذين يتعرضون للتعذيب والإيذاء، بيع الليمون والسمك، العمل في المرافئ...)، بل وأنّ حضور الشرطي في المقطع التالي " قصيدتي رُبطت بالحبال/قابلت رجل شرطة/دفعت غرامة/لكنه نسيَ التوقيع على إذن المرور..." ما هو إلا مثال صارخ للحكم الكولونيالي البوليسي القاسي على شعوب تلك البلاد.

لم يكن جاسينتو إلا نموذجاً لشعراء القرن العشرين في أنغولا الذين ناضلوا ضد الاستعمار البرتغالي للبلاد الذي انتهى عام 1975. بعضهم تبوّأ لاحقًا مناصب في السياسة، نذكر منهم أنتيرو دي آبرو الذي عمل سفيراً لأنغولا في إيطاليا بين 1993 و1999، وفيرياتو دا كروز الذي نُفي في سنوات حياته الأخيرة إلى الصين بفعل نشاطه المعادي للاحتلال، وغيرهم من الأدباء الأنغوليين الذين نقلوا إلى العالم كله تلك الصور القاسية للاستعمار والتي، وعلى الرغم من استقلال بلادهم، لا زالت آثارها تحفر عميقاً في نفس كلّ أنغوليّ في العالم.


نص القصيدة

ترجمتها عن الإنكليزية: إيفا شاهين


هذه ليست قصيدتي!

قصيدتي هي قصيدة روحي ودمي التي لم أكتبها بعد ....

لا أمتلك شيئاً من المعرفة أو القدرة على كتابتها

تلك القصيدة العظيمة التي أشعر بها… تتحول داخلي

قصيدتي بلا أي هدفٍ 

في الأدغالِ… في المدينةِ

في صوت الرياح

في هيجان البحر

في فكرة الوجود… تَجولُ

تخطو خارجاً

ملفوفةً بملابسٍ مبهرجةٍ

بائعةً نفسها

"ليمون، اشترِ لَ يْ مُ وْ ن"

قصيدتي تجري في الشوارع

على رأسها قطعة قماشٍ آسنةٍ

عارضةً نفسها

"اسقمري ، سردين ، رنكة"

أسماكٌ حسنةٌ، أسماااااكٌ جميلةٌ “

  قصيدتي تمشي مُجهدةً في الشوارع

  هنا مجلةٌ يوميّةٌ

والآن صحيفةٌ تحمِل قصيدتي.

قصيدتي تذهب إلى المقاهي

سَحْبُ اللوتو غداً… سَحْبُ اللوتو غداً

وسَحْبُ قصيدتي

يدور كما تدور العجلة

ثابتٌ لا يتحرك...

 سَحْبُ اللوتو غداً… سَحْبُ اللوتو غداً

قصيدتي تأتي من البلدةِ

يوم السبتِ تَجلبُ الغسيل

يوم الاثنين تأخذُ الغسيل

يوم السبت تجلب الغسيل وتُسّلم النفس

يوم الإثنين تُسّلم النفس وتأخذُ الغسيل

 قصيدتي تُعاني ابنةَ عاملة الغسيل 

في غرفةٍ مغلقةٍ

لسيّدٍ متسكّع لا قيمة له

من أجل خلقِ شهيّةٍ للانتهاك

قصيدتي عاهرة في البلدة، 

تقف عند باب كوخها المكسور!

أسرِع! أسرِع!

ادْفَع النقود

تعالَ ونَمْ معي..

قصيدتي تلعب بالكرة في حنكةٍ

وسطَ حشد من الناس 

كلُّ شخصٍ فيهم خادمٌ ويصرخ

هدف تسلل!!

قصيدتي تمشي حافيةَ القدمين في الشارع

قصيدتي تحمل الطرود في الميناء

تملأ حملاً

وتفرغُ آخر

تجدُ قوًّةً في الغناء

“tué tué tué trr

arrimbuim puim puim”

قصيدتي رُبطت بالحبال

قابلت رجل شرطة

دفعت غرامة، 

لكنه نسيَ التوقيع على إذن المرور

يذهب لمتابعة عمله

بشعر قصير

"رأسٌ محلوق 

دجاجٌ مطهوّ ببطء

اوه زي"

مهمازٌ ثقيلٌ

سَوطٌ يجلدُ

قصيدتي تذهب إلى السوق

 تعمل في المطبخ

 تذهب إلى منضدة العمل

تملأ الحانة والهدف

فقيرة رثّة وقذرة

تعيش في جهل ممتقع

قصيدتي لا تعرف شيئا عن نفسها

ولا كيفية التّضرُّع

قصيدتي صُنعت لتهِب نفسها

لتُسلِّم نفسها

دون مقابل

لكن قصيدتي ليست قدريّة ((أو جاحدة))

قصيدتي تُريد وتعلم مسبقاً

قصيدتي أنا أبيض

شُنّت على أنا الأسود

ماضيةٌ في الحياة...

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button